سودافاكس _ حزمة من الأسرار ما زالت تنطوي عليها “حمامات عكاشة”، ذلك النبع الدافئ المتصل من المياه المعدنية المنحدرة من جوف المرتفعات الغربية وسط تلال وسهول الحوض النوبي في شمال السودان باتجاه نهر النيل،
لكنها ليست مياهاً طبيعية عادية وعذبة، بل هي ينابيع مياه جوفية طبيعية سحرية بدرجة حرارة نحو 45 درجة، مشبعة بالكبريت والملح، ذات خواص طبية صحية، ما جعلها ملاذاً للعلاج الطبيعي لعدد من التهابات العظام المفصلية المزمنة والروماتيزم وارتخاء العضلات، وعلاج الأمراض الجلدية كحب الشباب والبهاق والأكزيما والصدفية.
مجهولة ومهملة
على الرغم من أن عمر هذه الحمامات يعود إلى عشرات المئات من السنين وهي في مكانها هذا بمحلية حلفا على الجانب الشرقي من النيل بمنطقة السكوت (دلقو المحس)، أقصى شمال السودان على بعد نحو 775 كيلومتراً شمال الخرطوم، غير أن كثيرين من السودانيين أنفسهم لم يسمعوا بها أصلاً.
حول هذا النبع المائي الحار مجهول المصدر على وجه الدقة والتحديد حتى الآن، المنطقة في أوقات خلت إلى جاذب سياحي معتبر، كما أنعش الحياة في قرية عكاشة المجاورة لها، ومن غير المعروف من اكتسب الاسم من الثاني، وهي مصممة كغرفة يبلغ طولها نحو ثلاثة أمتار ونصف المتر وعرضها متران مع ارتفاع متر ونصف المتر تحتوي بداخلها نبع تلك المياه الساحرة.
يرجع مؤرخون وجود “حمامات عكاشة” إلى عهد مملكة نبتة، منذ فترة الملك النوبي العظيم كاشتا، أحد الملوك الكوشيين للنوبة، خليفة الملك ألارا مؤسس المملكة، غير أن بعض المؤرخين ينظرون إلى الملك كاشتا باعتباره أول ملوك الأسرة الخامسة والعشرين بسبب تمتعه بنفوذ ملحوظ في مصر العليا.
تعرضت الحمامات التاريخية القديمة بعد خروج الإنجليز واستقلال البلاد لإهمال ونسيان مريع، فضلاً عن قساوة الظروف الطبيعية، إذ كانت أول نكباتها مع قيام السد العالي الذي رفع مناسيب المياه حتى غمرتها، ونجحت محاولات حفرها من جديد، لكن في المرة الأخيرة التي طمرها الفيضان في 1989 ظلت هذه الحمامات مطمورة تحت الطمي لما يقارب تسعة أعوام، من دون أن تجد أي جهد رسمي لإعادتها إلى الحياة، حتى تحركت مجموعة من شباب المنطقة لتشكل منظمة تحمل اسم هذه الحمامات السحرية.وفق الاندبندنت عربية
خاصية نادرة
بحسب شهادات أطباء متخصصين وزوار ومؤرخين، فإن مياه هذه الحمامات تحمل مواصفات طبيعية صحية نادرة لها القدرة على شفاء كثير من الأمراض الجلدية، وإنعاش الدورة الدموية والصحة العامة، لكنها لم تحظَ إلا بقليل من الاهتمام المحلي، كونها في منطقة نائية تفتقر إلى الخدمات ووسائل الوصول، على الرغم من تصنيفها ضمن مناطق الجذب السياحي في السودان.
جانبمننبعحماماتعكاشة(منظمةحمامات_عكاشة).jpg
يرجع مؤرخون وجود “حمامات عكاشة” إلى عهد مملكة نبتة، منذ فترة الملك النوبي العظيم كاشتا (منظمة حمامات عكاشة) (منظمة حمامات عكاشة)
يرجح عباس أحمد الحاج، الباحث في تاريخ السودان القديم، أن “حمامات عكاشة” تعود إلى عهد الملك النوبي كاشتا مؤسس مملكة نبتة الكوشية النوبية، المولود في القرن الثامن قبل الميلاد، المتوفي عام 745 قبل الميلاد، وكانت مياهها الساخنة المشبعة بالمعادن والأملاح تقضي على الفطريات وتنشط الدورة الدموية وتستخدم في العلاج والاستجمام.
وكشف عن أن الحمامات كانت شبه مجهولة إلى أن عثر عليها المستعمر البريطاني قبل أكثر من مئة عام، عندما عسكرت قواته في تلك المنطقة خلال عملية احتلال السودان عام 1896، وذلك خلال مهاجمته لمدينة دنقلا عاصمة الولاية الشمالية، واستخدموها كمنتجع صحي وترفيهي.
التاريخ البعيد
وأضاف الحاج “تقع تلك الحمامات الأثرية في منطقة دلقو المحس بمناطق وادي حلفا أقصى شمال البلاد، وتشير بعض الروايات التاريخية إلى أن أول اكتشاف لها كان في فترة صدر الإسلام الأول، قبل مهاجمة عبدالله بن أبي السرح وعقبة بن نافع الفهري لمناطق وأراضي المحس في معركة رماة الحدق الشهيرة عند ما يعرف بجبل الصحابة، لكنهم انسحبوا أمام شراسة جنود مملكة نبتة واضطروا إلى توقيع اتفاقية البقط الشهيرة التي استمرت زهاء 750 عاماً كأطول اتفاق في التاريخ.
مصر تعزز السياحة العلاجية لأبناء القارة السمراء
وحول مصدر اسمها، أوضح الحاج أنه على الرغم من ذهاب كثيرين إلى أن اسم عكاشة دخل إلى شمال السودان عبر الهجرات العربية في صدر الإسلام الأول، لكنه لم يستبعد أن يكون اسم عكاشة بفتح العين له علاقة باللغة النوبية.
توالت الإنشاءات الحجرية حول الحمامات، التي كان آخرها في فترة الحكم التركي، غير أن فيضان السد العالي أغرقها مرتين في 1978 و1998 واستمرت خلال الفترة الأخيرة مطمورة بالطمي الذي غطى حتى أسوارها لمدة تسعة أعوام كاملة وهي مدفونة، من دون أن تمتد إليها يد تنفض الغبار عنها وتعيدها إلى الحياة.
إنقاذ أهلي
نتيجة لجهود أهالي المنطقة، أنشئت منظمة “حمامات عكاشة” الخيرية بهدف استمرار الحمامات وتأهيلها وحل مشكلة تصريف المياه، وكمنطقة جذب سياحي واستثماري يرفع مستوى دخل الفرد ويوفر مشاريع إنشائية مثل الفنادق والخدمات التابعة لها. كما تجري كلية العلوم والتقانة قسم الأحياء بجامعة النيلين، في سياق الجهود العلمية المبذولة لفك طلاسم وأسرار تلك الحمامات دراسات حول خواص وطبيعة المياه النابعة فيها.
وعمد الأهالي في المنطقة بجهدهم الذاتي الخاص وبمعاونة مجموعة من الشباب المهتمين إلى إعادة حفر الينابيع مرة أخرى، بغرض إحياء تلك الحمامات التاريخية القديمة، غير أنها ظلت دائماً تتعرض لمشكلة ارتفاع مناسيب النيل بأعلى من غرفتها، مما يخلق مشكلة في التصريف ويؤدى إلى تراكم كميات من الطمي تهدد باستمرار غرف الحمامات المشيدة من الحجر.
من رحم تلك الجهود الأهلية، ولدت “منظمة حمامات عكاشة” من أبناء المنطقة نفسها، وتمكنت في وقت وجيز من إعادة حفر غرفة الحمامات لتجد أن المياه المعدنية الساخنة التي ينبعث منها البخار الضبابي ما زالت تتدفق بذات الطريقة والمعدل.
وأوضح متوكل محمد سيد أحمد، عضو منظمة “حمامات عكاشة” لـ”اندبندنت عربية” أنه ومع تكرار تعرض الحمامات للغرق، دفنت أخيراً بشكل نهائي في فيضانات عام 1989، ولم تجد من يهتم لأمرها من الدولة، وظلت مطمورة تحت الطمي حتى 2016، إلى أن اتفقنا كشباب بالمنطقة في 2917 على تكوين هذه المنظمة لإحياء الحمامات ورعايتها وتطويرها، وتكفلنا بإجراء المسح الجيوفيزيائي وإحضار الآليات اللازمة لإعادة فتح غرفة الحمامات.
بريق أمل
أضاف سيد أحمد “مع تكثيف الجهود، دبت الحياة رويداً رويداً في حمامات عكاشة، وبدأ الزوار من الداخل والخارج في التوافد على الموقع إلى أن جاءت فيضانات العام الماضي لتغرقها مرة أخرى، لذلك ومع تكرار عمليات الغرق كلما ارتفعت مناسيب مياه النيل، شرعنا في بناء غرفة في مكان أعلى بقليل من الغرفة القديمة حول نبع المياه المعدنية ذاته وبالمعدلات نفسها.
واستطرد “نتطلع إلى إنقاذ وإحياء هذه الحمامات وتوظيفها سياحياً، لكنها للأسف تفتقر إلى المرافق المساعدة كالنزل والاستراحات والخدمات الأخرى، على الرغم من الرغبة الكبيرة في زيارتها من عدد من السياح الأجانب والمحليين ممن تواصلوا معنا.
دعا سيد أحمد إلى ضرورة العمل على الاستفادة من هذه الثروة الطبيعية التي تحتاج إلى مزيد من الجهد للارتقاء بها وبخدماتها كمناطق سياحية من الجهات الرسمية في مجال السياحة.
جاذب سياحي
من جانبه، أكد مصدر في وزارة الثقافة والإعلام والسياحة أن “حمامات عكاشة” مصنفة عندهم كأحد الجواذب السياحية المهمة والمتفردة في السودان، كونها تمثل نموذجاً قابلاً للتطوير كمنتجع سياحي وعلاجي، بعد أن ثبت أن مياهها الكبريتية المشبعة بالمعادن فيها شفاء لعدد من الأمراض الجلدية.
وقال المصدر لـ”اندبندنت عربية إن “الحمامات تعرضت للدفن أكثر من مرة، لذلك وفي إطار المساعي صممنا مشروعاً متكاملاً لتنمية المنطقة كمنتجع عبر شركة مساهمة عامة من أهل المصلحة في المنطقة نفسها لتضطلع بمتابعة تنفيذ المشروع، لكن للأسف توقفت كل الجهود وارتبكت الملفات مع الظروف الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد”.
وفي تعليق لها على العلاج بالحمامات، قالت استشارية الأمراض الجلدية ورئيسة جمعية الأمل لمرضى البهاق والصدفية ريلة عواض خلال زيارة لها إلى الحمامات، إن “العلاج في الحمامات يعرف بالعلاج بالمياه المعدنية، وهي تحتوي على مياه ساخنة غنية بعدد من المعادن التي لها دور في علاج أمراض جلدية عدة وعلى رأس تلك المعادن الكبريت”.
فوائد صحية
وأوضحت عواض أن المرضى الذين يقبلون على الحمامات يستفيدون من جوانب عدة، مثل درجة الحرارة في المياه إلى جانب المعادن التي تذخر بها، فضلاً عن أنها تحسن حالة القلب وتفيد مرضى ارتفاع ضغط الدم وتستفيد منها كل أعضاء الجسم بتنشيط الدورة الدموية، باستثناء مرضى انخفاض ضغط الدم وضعف عضلة القلب الذيت يجب أن يتجنبوا مياه الحمامات. وأشارت إلى أن هناك مناطق عدة في العالم أصبحت مزارات سياحية للعلاج بالطريقة ذاتها في سلوفاكيا والبحر الميت مثلاً، التي تحولت إلى منتجعات سياحية علاجية عالمية.
وقالت عواض إن درجة مياه الحمامات تنعش الدورة الدموية وتتخلص من عدد من الأمراض، فضلاً عن أن المعادن والكبريت يخلصان الجسم من ميكروبات عدة وكلاهما معاً يؤديان إلى تفكك الخلايا الميتة على سطح الجلد، تمهيداً للتخلص منها وتنشيط نمو خلايا جديدة خالية من أي أمراض. وربما تحتاج بعض الأمراض بعد تفكك الخلايا الميتة إلى بعض الدعم بالعلاج الصيدلاني، فيكون أمراً مفيداً جداً ويحقق نتائج أفضل للمرضى، مشيرة إلى أن المنطقة تعتبر أرضية خصبة لمزيد من البحوث العلمية حول الأمراض الجلدية بمختلف أنواعها.
في سياق متصل، أوضح محمد الحسن عبداللطيف، من شركة “الكسنجر” التي تعمل في تطوير السياحة بالولاية الشمالية بالاتفاق مع حكومتها، إن حمامات عكاشة تقع ضمن خطة الشركة لتطوير المرافق السياحية من خلال مشاريع لتطوير المنطقة وتأهيلها سياحياً.
وشرح أن من ضمن خطط الشركة إنشاء فندق وعيادة في الحمامات بغرض استكمال الاستفادة الصحية للزوار من طالبي العلاج.