بعد إصدار السلطات الانقلابية عملة جديدة من فئة الألف جنيه على دفعتين، ثار تبعا لذلك جدل اتخذ مسارين، مسار رأى في الخطوة أن الحكومة تتجه للتوسع في طباعة الكثير من الأوراق النقدية، بينما كان رأي أصحاب المسار الآخر ان الجهد الذي بذل في عملية اصدار فئات جديدة، كان الاولى والاجدى منه تغيير العملة، ويدفع أصحاب هذا الرأي بأن تغيير العملة بات ضرورة ملحة لامتصاص الكتلة النقدية الهائلة خارج النظام المصرفي والضريبي والمقدرة بنحو 95 في المئة من إجمالي الكتلة النقدية في البلاد والمقدر حجمها بنحو 900 تريليون جنيه، وتستخدم في أنشطة ومضاربات مضرة بالاقتصاد الذي يعاني من مشكلات هيكلية عميقة، هذا غير أنها تعد أحد العوامل الرئيسية التي تسببت في تردي الاقتصاد، وذلك باحتفاظ بعض التجار بأموال طائلة خارج المصارف ويستخدمونها في أنشطة ومضاربات لا تخضع للرقابة الحكومية، وتكريسها لعمليات مشبوهة في قطاعي العقارات وتجارة العملة، وتشير بعض الاتهامات الى ان غالب هذه الكتلة النقدية الضخمة تمتلكها عناصر من النظام البائد، ويؤكد عدد من الخبراء الاقتصاديين والمحللين الماليين أهمية تغيير العملة للتمكن من ضبط السيولة المتداولة خارج المظلة المصرفية، محذرين من الآثار السلبية الكبيرة التي تنجم عن وجود سيولة ضخمة خارج السيطرة، ويرى هؤلاء الخبراء أن طباعة فئات جديدة كبيرة وتجاهل مطالب تغيير العملة ستعقد من عملية امتصاص السيولة خارج النظام المصرفي، وتصب بالتالي في مصلحة المجموعات المخربة للاقتصاد..
الشاهد في هذا الجدل المتجدد في موضوع تغيير العملة، والذي كان قد أثير من قبل خلال حكومة حمدوك الأولى، ان التردد في اتخاذ قرار بتغيير العملة ما زال قائما، رغم الاجماع الكبير للخبراء والمحللين على ضرورة تغيير العملة، بل كان تغيير العملة أحد المطالب الرئيسية للجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير التي ترى أنها ضرورية ولازمة للاصلاح الاقتصادي ومعالجة الأزمة الاقتصادية المستفحلة، غير أن هذا المقترح جوبه وقتها باعتراض من وزير المالية الاسبق الدكتور ابراهيم البدوي الذي دفع بعدم جدواه، ولكن يبدو ان د. البدوي قد غير رأيه بحسب تصريح له خلال اليومين الماضيين وانضم الى ركب المطالبين بالتغيير، كما كانت الدكتورة هبة التي خلفت البدوي على وزارة المالية من المعترضين على التغيير، ليس بسبب عدم جدواه وانما وفقا لتبريرها إن عملية تغيير العملة مكلفة ومعقدة للغاية وتحتاج إلى نحو 600 مليون دولار، ويبدو الآن ان التدهور المريع والمتسارع لقيمة الجنيه السوداني سيفرض ان عاجلا أو آجلا قرار التغيير، وبالطبع سيتم ذلك بصورة فجائية غير معلنة،
وأذكر بهذه المناسبة ان النظام البائد وفي احدى المرات التي قرر فيها تغيير العملة، احاط الامر بسرية تامة، وعند اكتمال طباعتها ووصولها البلاد، حملوها ليلا على شاحنات وخزنوها بمقر منظمة الدعوة الاسلامية (احدى حواضن الاسلاميين التي أعادها الانقلاب) بعد أن كسروا احد حوائط المبنى لتمكين الشاحنات من الدخول.. والسؤال المهم هل بالفعل سيحل تغيير العملة عقدة سعر الصرف التي استعصت على الحل، الاجابة عن هذا السؤال تكمن عند طرفين من الخبراء الاقتصاديين ليسوا متضادين تماما، فحتى الطرف الذي لديه مآخذ لتغيير العملة يقر بعدة فوائد لها يشترك فيها مع المؤيدين بشدة لعملية التغيير، غير أنهم لا يرون جدوى في تغيير العملة ان لم يصاحب ذلك أو تسبقه جملة من الترتيبات، وبرأي هؤلاء أن تغيير العملة في حد ذاته لا يحل أي مشكلة، ما لم يكن مصحوبا بتغيير جذري في الأطر الفنية والقانونية للسياسة المالية والسياسة النقدية وقانون بنك السودان وكامل الإطار القانوني الذي يحكم العملية الاقتصادية، ولتحقيق ذلك يطالبون بالعودة الِي قانون بنك السودان القديم الذي يقيد الاقتراض الحكومي من البنك المركزي وذلك فقط بهدف معالجة اثر موسمية الإيرادات، وحين تبلغ استدانة الحكومة حدها الأعلى يمنعها القانون من الحصول على قرش واحد قبل أن تسدد ما تراكم من الديون. ويضيفون بأن المتطلبات المسبقة لعملية تغيير عملة ناجحة، صعبة فنيا وقانونيا وسياسيا في ظل الأوضاع الانقلابية القائمة الآن، لأنها برأيهم لا تملك المهارات المطلوبة ولا الإرادة السياسية ولا القدرة على التنفيذ الفعال اللازم لعملة ناجحة، ولهذا يعتبرون الاقدام على تغيير العملة دون الوفاء بهذه المتطلبات قفزة في الظلام ومغامرة غير محسوبة..
بشفافية – حيدر المكاشفي
الجريدة