ما أسباب تفشي الأمراض النفسية في المجتمع السوداني؟
ما بين الظروف الداخلية الخاصة بطبيعة تكوين شخصية الفرد، والظروف الخارجية المتمثلة في ضغوط الحياة وسوء الأوضاع المعيشية، وتحديات البيئة المحيطة، وضعف القدرة على التحمل، تبرز موجة متزايدة من الاضطرابات والأمراض النفسية والعصبية في المجتمع السوداني، ويرجع البعض هذا التفشي إلى أزمة الهشاشة النفسية في طبيعة الفرد أو نتيجة لعدد من الخيبات خاصة أو عامة، بينما يرجعه آخرون إلى ضغوط الحياة وسوء الأوضاع المعيشية، التي فاقم منها أسلوب الحياة العصرية باتخاذه كأسلوب أمثل للعيش تتقاصر دونه إمكانيات فئات مجتمعية عديدة ما يصور للفرد ضياع أحلامه وعجزه عن تحقيق ما يصبو إليه.
في يوليو (تموز) الماضي أجرى باحثون سودانيون دراسة عن الصحة النفسية، نُشرت على موقع “ساينس دايركت”، جاء فيها أن “13 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية في ولاية الخرطوم يعانون من الاكتئاب أو القلق”، وفي إحصائية أخرى شملت شريحة أكبر من سكان الخرطوم قالت الدراسة، إن “23 في المئة من النساء يعانين من اضطرابات ما بعد الولادة، و24.3 في المئة يعانون من الاكتئاب، و23.6 يعانون من القلق، و14.2 من الفوبيا الاجتماعية، ونسبة 14.2 في المئة أيضاً يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة”.
ترسب الاضطراب
وقال اختصاصي الأمراض النفسية والمدير السابق لمستشفى “التجاني الماحي” للأمراض النفسية والعصبية الشفيع عبدالله “تفشت الأمراض والاضطرابات النفسية في المجتمع السوداني في الفترة الأخيرة بتردد عالٍ ومقلق، مع قصور واضح في المواعين العلاجية”، وأوضح أن “المستشفيات الحكومية العامة كلها مركزة في العاصمة الخرطوم، منها مستشفيان مدنيان، وآخران عسكريان أحدهما تابع لمستشفى السلاح الطبي، والثاني تابع لمستشفى الشرطة، وهناك بعض المستشفيات الخاصة لكنها قليلة”، وعن أسباب تفشي هذه الحالات بين أن “منها أسباباً بيولوجية وأخرى جينية ونفسية واجتماعية، وتجتمع كلها فتؤدي إلى حال المرض، خصوصاً إذا كانت لدى الشخص قابلية لأن يكون عرضة للاضطراب النفسي”، وأضاف عبدالله، “المحددات التي تظهر المرض النفسي حالياً كثيرة، منها ما هو مرتبط بطبقات معينة، وأخرى مرتبطة بالجنس، فهناك بعض الاضطرابات مرتبطة بالنساء وبعضها مرتبط بالرجال وفق ضغوط ترسب الاضطراب والمرض النفسي، من ضمنها عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنزوح، وهناك فئة النازحين والمشردين، لديهم ضغوط كثيرة تعرضهم للاضطراب النفسي نتيجة عيشهم تحت ظروف صعبة، فمنهم من ينامون في مجاري الصرف الصحية المعتمة وعديمة التهوية، ويقضون نهارهم على هامش المجتمع”.
وما يجدر ذكره ملاحظة انتشار استعمال المخدرات بصورة واسعة بين الشباب، وأشهرها مخدر “الآيس” أو “الشبو” وهي مواد تؤدي إلى الإدمان السريع، وفي هذا الشأن أوضح عبدالله أن “المخدرات من المسببات الرئيسة لحدوث الاضطرابات النفسية والعصبية، خصوصاً أن اللجوء إليها يتزامن مع حدوث انهيار اقتصادي، فتنشط تجارتها وترويجها ويكون عدد الضحايا كبيراً، وهناك مشردون ونازحون يعانون من عدم الاستقرار يستعملون المتاح من المواد المخدرة في حدود إمكانياتهم ومنها مادتا “السلسيون” و”البنزين” وغيرهما، وهناك من يبتكر أنواع مخدرات جديدة مثل خلط مجموعة مواد علاجية مسكنة، ترسب أمراضاً نفسية وذهانية كثيرة”، وأضاف، “لوحظ كذلك لجوء عدد من المدمنين إلى تناول بعض النباتات المخدرة والمسكرة التي تنمو في أطراف بعض المدن، وبعد تناولها يدخل الشخص في حال ذهانية وهلوسة تتحول إلى حال ارتياب واضطرابات منها اضطراب ثنائي القطب، وتراجع التركيز والانتباه وتشتت الذاكرة، واللجوء إلى العنف والتخريب”.
مصادر رئيسة
من جانبها، قالت الاختصاصية النفسية إسراء شبيكة، “الأمراض والاضطرابات النفسية حالات تؤثر على طريقة التفكير أو الشعور أو التصرف أو العلاقة بالآخرين أو بالبيئة المحيطة، أو علاقة الشخص بذاته، وهي كثيرة تزيد نسبتها على 80 في المئة، وأصبحت الاضطرابات النفسية شائعة لأن كثيرين من الناس لديهم بعض هذه الأعراض تصل أحياناً إلى مستوى أعلى ثم يخضع الشخص إلى المعالجة النفسية، وتتراوح حال الاضطراب النفسي من خفيفة إلى شديدة وتختلف من شخص إلى آخر، بحسب نوع شخصيته ومدى قوته، فالأعراض الخفيفة يمكن التعافي منها، ولكن الأشخاص المهيئين نفسياً، تزيد عندهم حالات الاضطراب”، وعددت شبيكة المصادر الرئيسة للإثارات العصبية وهي، “التوتر، أو وفاة أحد الأقارب، أو الطلاق والمشكلات العائلية، فإذا حدثت لشخص لديه بعض الاضطرابات فيمكن أن تزيد من معدلها ويتحول إلى مرض نفسي، لأن الاضطرابات النفسية وارد حدوثها إذا وضع الشخص تحت ضغط ما، لكن عندما تتحول إلى مرض ويؤثر على حياة الشخص تصبح شخصيته أكثر ضعفاً”.
ورأت أن من الأسباب “الاعتداءات والإساءات العاطفية والجسدية والصدمات، فإذا حدثت للطفل يمكن أن تكون أكثر تأثيراً عليه عندما يكبر، وما يؤثر على الأطفال والمراهقين أيضاً أسلوب التربية والرعاية الوالدية والبيئة وعلاقات الأبوين”، مضيفة، “بعض البحوث أوردت أن هناك رابطاً بين الأمراض العضوية والنفسية، بسبب عدم تقبل المريض مرضه أو تألمه الزائد وعدم تحمله ما يعكس بعض المؤشرات والاعتلال النفسي”، وتابعت أن من “أسباب الأمراض النفسية اضطراب ما بعد الصدمة الذي يعد عرضاً مرضياً يصيب الذين عايشوا أحداثاً مخيفة أو خطرة أو صادمة، في الحروب والصراعات والعنف عموماً وحوادث القتل، ومن الأسباب زيادة مستوى الفقر والحاجة والعوز، وتأثير الإدمان والأمراض المصاحبة له، ويفاقم منها الجهل ومستوى التعليم المتدني أو الأمية، ويلاحظ أن أكبر نسبة من المرضى لمن هم في مستوى الفقر أو الإدمان”.
الإناث أكثر عرضة
أما بالنسبة للنوع الاجتماعي، فقد أكدت شبيكة أن “الإناث الأكثر عرضة للاضطرابات والأمراض النفسية من الذكور، والأكثر تضرراً نفسياً لأن بعض الاضطرابات تكون مصاحبة للمرأة في مختلف مراحل عمرها، في مرحلة المراهقة إذا لم تجد الوضع الملائم لعبورها، وفي فترة الدورة الشهرية، ومرحلة الزواج إذا صاحبته بعض المشاكل، وكذلك فترة الحمل والولادة والرضاعة التي يصاحبها اضطراب الاكتئاب والقلق والتوتر، بسبب التغيرات الهرمونية والمشاكل الفسيولوجية الناتجة عن الألم”، وأشارت إلى أن “هناك بعض الأشخاص مصابون بأمراض (نفسجسمية)، أي أن ارتفاع حال الأمراض العضوية مثل السكر والضغط وقرحة المعدة والمصران العصبي (القولون)، تصاحبها بعض الاضطرابات النفسية مثل التوتر والاكتئاب والقلق وغيرها”، ونوهت إلى أن “من الأمراض ما يمكن علاجه بسهولة، ومن دون تدخل أخصائي نفسي بتغيير المريض وتيرة حياته أو تصحيح خياراته أو سلوكه وطريقة تفكيره وغيرها، والبعض الآخر يحتاج لرعاية طبية وتعامل مع اختصاصيين في المجال”، وقالت شبيكة، “العلاج نوعان، علاج بالعقاقير والأدوية، وعلاج نفسي سلوكي، أو الاثنان معاً، وكثيرون من المرضى وبخاصة المدمنون يبدأون العلاج الدوائي، وعندما تحدث لهم أعراض انسحابية يتركون العلاج من دون أخذ الجلسات النفسية واستئصال المشكلة من جذورها فيعودون مرة أخرى للإدمان”.
مرحلة حرجة
أما اختصاصية الطب النفسي نجلاء أحمد فأشارت إلى أن “العلاج الطبي النفسي في السودان تقابله عوائق وتحديات كبيرة متمثلة في قلة أعداد مقدمي الخدمة النفسية من أطباء معالجين نفسيين، ومعالجين اجتماعيين وممرضين مؤهلين، إضافة إلى شح الأدوية وندرتها في أحيان كثيرة ما يدفع البعض للبحث عن طرق بديلة للعلاج، وهناك ضعف المستشفيات ومنافذ تقديم الخدمة وعدم استيفائها المعايير المتعارف عليها عالمياً، وغياب التوعية بالصحة النفسية مع انتشار الممارسات الخاطئة من قبل المعالجين الشعبيين”، وحذرت من أن “الصحة النفسية في البلاد تمر بمرحلة حرجة نتيجة الضغوط الاقتصادية والمعيشية، والمشاكل السياسية والأمنية التي أنتجت حالات إحباط عند البعض، وجعلتهم يلجأون إلى المخدرات والمؤثرات العقلية”، وأكدت أن هذه المرحلة “تحتاج إلى تكاتف الجهود حتى يتم تقديم وقاية وعلاج للأمراض والاضطرابات النفسية بشكل مقبول”.
نقص الإحصائيات
وفي ما يتعلق بالإحصائيات قال الشفيع عبدالله، “هناك نقص كبير في الإحصائيات الدقيقة، بسبب عدم وجود إمكانيات في الدولة ونقص الاهتمام بالصحة، ويكون الاعتماد على التقديرات فقط نتيجة النقص في الأدلة أو ما يُطلق عليه “الطب المبني على البراهين”، وهذا يحتاج إلى مجهود إحصائي دقيق، خصوصاً الإحصاء الحيوي وهو حجر الأساس للخدمات الصحية”، وأضاف “على الرغم من القصور، هناك مجهود يبذل من جانب الأطباء ومؤسساتهم، ويفترض أن تكون هناك خطط مجتمعية مبنية على دراسات وبحوث من جانب الدولة ومنظمات المجتمع المدني والسلطات الصحية لتواجه هذه الأزمة”.
أما إسراء شبيكة، فترى أن “ظروف السودان الحالية جعلت الدراسات تتم بجهود فردية وبعينات عشوائية، إذ يتعسر تعميمها على كل السودان، على الرغم من معاناة أعداد كبيرة في الأقاليم والمدن والقرى البعيدة من الاضطرابات والأمراض النفسية لما تعانيه من حروب وفقر وما يترتب عليها”، وأكدت أنه “منذ عام 2019 إلى الآن لم تتمكن الدولة من إجراء مسح للمشكلات والاضطرابات النفسية والظواهر المصاحبة لها كافة، إذ لم تجرَ دراسة شاملة على مستوى الدولة تعطي إحصائيات دقيقة لمعرفة مدى انتشار الأزمة لتضع الحلول والعلاج، وهناك أيضاً هجرة الأطباء المختصين وعدم وجود إمكانيات لإجراء دراسات للمؤسسات المسؤولة بوزارة الرعاية الاجتماعية، مع عدم الاهتمام اللازم بهذا المجال على المستوى العام، ومعظم الأطباء يعملون في القطاع الخاص بمرتبات ضئيلة أيضاً”، وقالت أيضاً، “لكن هناك مؤشرات يمكن أن يؤخذ منها، مثل إحصائيات حالات الطلاق، التي توضح أن من بين كل 10 حالات زواج هناك تسع حالات طلاق، أي نسبة الطلاق تمثل أكثر من 90 في المئة، ومن المؤشرات أيضاً حالات الانتحار، إذ إن السودان الدولة العربية الثانية في حالات الانتحار بعد مصر”.
من جهتها، قالت نجلاء أحمد “مع عدم وجود إحصائيات دقيقة، لكن لوحظ ازدياد أعداد الشباب من النوعين في منافذ تقديم الخدمة الطبية النفسية، وأكثر الأمراض شيوعاً وفقاً للتردد على العيادات والمستشفيات النفسية هي الإدمان ومضاعفاته، والاكتئاب، والقلق واضطرابات النوم، واضطرابات ما بعد الصدمة، والعنف الأسري خصوصاً على المرأة والأطفال”.
إندبندنت