إسماعيل الأزهري .. حَقّقَ استقلال السودان وَمَاتَ في غياهب السجن

إسماعيل الأزهري.. حَقّقَ استقلال السودان وَمَاتَ في غياهب السجن
بروفايل – رَسَمَه: بهاء الدين عيسى

سيرة ذاتية

أول رئيس للسودان

تاريخ الميلاد: 20 أكتوبر 1901

مكان الميلاد: أم درمان

توفي في 26 أغسطس 1969

هل نسي الشعب عندما مثَّل الزعيم الأزهري السودان في مؤتمر باندونق الشهير بإندونيسيا 18 أبريل 1955م.. كان لكل دولة عَلَمها ما عدا السودان.. حينها جلس جلسة تأمُّل وهو يَحمل بدواخله هُمُوم وطن، ثُمّ قام وإخرج منديله الأبيض ووضعه مكان العلم.

دائماً ما تحتفي الشعوب العظيمة برموزها الشامخة التي قدَّمت لها خدمات جليلة في شتى المَجَالات ومُختلف المَيادين، ولو عُدنا إلى فترة التحرير منذ المُستعمر، نجد أن هنالك قد ولجت إلى الأفق رموزٌ قومية عديدة، وقد سعى الجميع عندئذٍ بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ لاستقلال السودان، وكل منهم كان يعمل من منظوره، في هذا الوقت ظهر تياران رئيسان أحدهما هو التّيّار الاستقلالي، والآخر هو التّيّار الاتحادي، واختلفت السُّبل وتَعَدّدَت الوسائل وكَانت الغَاية في النِّهاية واحدةً، إذ اتّحدت كلمة التيارين، وصُبّت كل الجُهُود نحو فجر الحُرية الطامح وتيارها الجارف، وتُوِّجت الجُهُود برفع العَلم عَلَى سَارية القصر إيذاناً باستقلال السُّودان.

مَاذا قَالَ في خطاب الاستقلال؟

ومِمّا قاله الأزهري في خطاب الاستقلال: «إذا انتهى بهذا اليوم واجبنا في كفاحنا التحريري، فقد بدأ واجبنا في حماية الاستقلال وصيانة الحُرية، وبناء نهضتنا الشّاملة التي تَستهدف خير الأمة ورفعة شأنها، ولا سَبيلَ إلى ذلك إلا بنسيان الماضي وطرح المَخاوف وعدم الثقة، وأن نـُقبل على هذا الواجب الجسيم إخوة مُتعاونين وبنياناً مرصوصاً يشد بعضه بعضا، وأن نُواجه المُستقبل كأبناء أمة واحدة مُتماسكة قوية».

شهادة للعصر

ويقول الأستاذ أحمد خير المحامي، في كتابه كفاح جيل “ولا ريب أنّ لذلك الجيل حداة ركبه وبناة مجده وقادة زحفه إلى العُلا وطلائع السمو به إلى الذرى الشامخات”.

الأزهري كان يتقدّم طلائع النضال والجهاد الوطني وكان دوره بارزاً، وقد سجّل اسمه في سِجِلَ الخَالدين في مَعركة التحرير التي كان من فُرسانها الصّناديد بمدادٍ من ذهبٍ.

وإسماعيل الأزهري حفر بأظافره على الصخر الصّلد وبنى مجده بنفسه، وكَانت له من الصِّفات الزعامية والمُؤهِّلات القيادية، ما دفعه دفعاً للرئاسة، ومن ثَمّ إلى الزعامة برغم كل المعوقات التي اعترضت طريقه برغم التي أحاطت به، وقد بدأ العمل وسط الخرِّيجين الذين كان من قادتهم ثُمّ ما لَبِثَ أن صَارَ قائدهم الأول بلا مُنازع. وقيادة المُستنيرين ليست بالأمر الهيِّن اليسير لا سيما أولئك الخريجين الأفذاذ الذين كان يعمل وسطهم وهم من رُوّاد الفكر وحَمَلَة مشاعل النور، وقد نازعه الكَثيرون حول رئاسة حزبه وحول رئاسة الوزارة، ولكنه كَان صَلِبَ العزيمة، قوي الشكيمة، فولاذي الإرادة، وخاض معارك شرسة، واستطاع أن يشق طريقه بقُوةٍ وثباتٍ يزينه صبرٌ وجلدٌ وحنكةٌ وسِعة صَدر، كما يروي مُعاصروه في مُختلف مراحل حياته العامة، وتحفظ له المضابط البرلمانية والليالي والندوات السّياسيّة أنّه لم يعرف الهتر وسقط القول.

سعة الصدر

وكان واسع الصدر، حليماً، ووسط رهطه كان غرة القوم وجبين الجماعة، وانتزع الزعامة انتزاعاً من مُنافسيه في التّيّار الذي كان ينتمي إليه؛ لأنّه كان شعبياً مُنغمساً مع الجماهير في هُمُومها، ويلم إلماماً تَامّاً بنبض الشارع، فدانت له الزعامة وأتته تجرجر أذيالها، وقد كتب عنه المرحوم خضر حمد في مذكراته صفحة 236:- (لقد عرفت الرئيس منذ أن جمعتنا الحركة الوطنية، وكُنت أوائلها اختلف معه في المبدأ، وكنت كلما هاجمني أعوانه ومُناصروه هَاجمته هو وتَجاهلت الآخرين، وكان لا يَرد مُطلقاً على جريدة أو هجومٍ، وكان كثيراً ما يقرأ ويضحك، فله من قوة الاحتمال والصبر ما ليس لغيره، ثم ربطت بيننا الحركة الوطنية -أيضاً- وأصبحنا في حزبٍ واحدٍ هو الحزب الوطني الاتحادي هو رئيسه وأنا سكرتيره، وكُنت أحد الذين كوّنوا هذا الحزب وكُنّا ثلاثة وكان ثلاثتنا لا يُناصر الأزهري وبعضهم يكرهه، ولكن بالرغم من ذلك لم نجد مَناصاً من انتخابه رئيساً للحزب، لأنّنا لم نجد سواه أو من يُماثله، فنال الرئاسة عن جدارة.

كاريزما سياسية

ويضيف في حديثه: (في فترة الحكم بدأت أشعر بأنّه رجلٌ يقدِّر المسؤولية تماماً ويَعرف واجبه، وقاد السفينة وأصرّ على أن تسير وفق الاتفاقية وألا يعطي فُرصة لتدخل الإنجليز إلى أن تم الاستقلال، ومضينا في التعاون مع بعضنا البعض، وصفات أزهري الممتازة كثيرة، وعلى كثرتها يعرفها العدو والصديق ولا ينكرها إلا مكابر حاقد).. ويَستطرد في حديثه عن الرئيس الأزهري في مُذكّراته قائلاً: (وفي السّجن ظَهرت منه صفات أخرى هي تَديُّنه ومُداومته على قراءة القرءان الكريم والفقه والتاريخ.. هذا إلى جانب اهتمامه بالتخطيط، فقد كان ضمن كتبة تقويم السودان وخرطه وكان يدرس الطرق وأماكن المياه وتطوير الرعاة، وكان اهتمامه بالخريف عظيماً، وكان يتحدّث عن الثروة الحيوانية والاهتمام بها وبالصعيد، وكُنّا كلما نلتقي في الفطور أو الغداء أو العشاء يأتيني بسؤالٍ سَواء في القرءان الكريم أو الفقه أو السودان عموماً، لا يتكلّم عن الغير ولم يسأل ولو مرة واحدة لماذا نحن هنا ومتى نخرج وماذا يريدون منا، وكان مؤمناً بأنّ الإنسان لا يشكو للإنسان ومعنى ذلك أنه يشكو الخالق للمخلوق، أي أنّ كل ما يحدث هو من الله ويجب الصبر عليه).

موجة حُزن

وتصاعدت موجة الحُزن التي ارتسمت في ملامح وجه صالح محمد إسماعيل. وقال: هل يصدق أيِّ سُوداني أنّ الأزهري بعد وفاته اكتشفنا أنه كان مطلوباً سلفية من البنك التجاري بمبلغ 52 ألف جنيه، وإكراماً لهذا العملاق قُمنا نحن ثلاثة بتسديد ذلك المبلغ للبنك، شخصي الضعيف والحاج بشير النفيدي وعبد السلام أبو العلا، وأنا لا أقول ذلك امتناناً، ولكن وفاءً لذلك الرجل العَفيف النّظيف، ومعذرة إن كان حديثي هَذا قَد يَزعج القَليلين الذين يَعرفون بعض أسرار الأزهرى، ولكنها الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجيل الجديد عن هذه الشخصية الفذة..

ويواصل الأستاذ صالح محمد إسماعيل، في كشف الأسرار عن شخصية الزعيم الأزهري ظلت حبيسة الصدور لعدة عُقُود ويقول: كان الأزهري عند خُروجنا لأيِّ مشوار، كثيراً ما يكون معي في عربتي الخاصة، وما لا يعرفه عنه الناس إنه كان ذا طاقة جبّارة وقُوة احتمال قلّ أن يتمتّع بها بشرٌ، فقد كان يحتمل عدم الأكل والشرب لأكثر من اثنتي عشرة ساعة مُتواصلة، وكان قليل الطعام والشراب.

تفوُّق ونبوءة

هو ولد في بيت علم ودين، تعهّده جده لأبيه السيد إسماعيل الأزهري –الكبير- بن السيد أحمد الأزهري، تلقّى تعليمه الأوسط بود مدني، كان نابهاً مُتفوِّقاً، التحق بكلية غردون عام 1917م ولم يكمل تعليمه بها.. عمل بالتدريس في مدرستي عطبرة الوسطى وأم درمان، ثم اُبتعث للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت وعاد منها عام 1930م، عُيِّن بكلية غردون وأسّس بها جمعية الآداب والمُناظرة.. وعندما تمّ تكوين مؤتمر الخريجين اُنتخب أميناً عاماً له في 1937م.

تزعّم حزب الأشقاء الذي كان يدعو للاتحاد مع مصر في مُواجهة الدعوة لاستقلال السودان التي يُنادي بها حزب الأمة.. عارض تكوين المجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية.. تولى رئاسة الحزب الوطني الاتحادي (الحزب الاتحادي الديموقراطي حالياً) عندما توحّدت الأحزاب الاتحادية تحته.. في عام 1954م، اُنتخب رئيساً للوزراء من داخل البرلمان وتحت تأثير الشعور المُتنامي بضرورة استقلال السودان أولاً وقبل مُناقشة الاتحاد مع مصر، وبمُساندة الحركة الاستقلالية تقدّم باقتراح إعلان الاستقلال من داخل البرلمان فكان ذلك بالإجماع.

• تولى منصب رئاسة مجلس السيادة بعد قيام ثورة أكتوبر 1964م إبان الديموقراطية الثانية.

• اُعتقل عند قيام انقلاب مايو 1969 م بسجن كوبر، وعند اشتداد مرضه نُقل إلى المستشفى إلى أن توفي بها.

  • كان مُتزوِّجاً من السيدة الفضلى مريم مصطفى سلامة ولديه عدد من الأبناء:

  • آمال متزوِّجة من الدكتور معتصم حبيب الله.

  • سامية كانت مُتزوِّجة من العميد مهندس عثمان أمين ثُمّ الكابتن بحري حسن شريف.

  • سمية مُتزوِّجة من الأستاذ الشاعر الفاتح حمدتو.

  • سناء مُتزوِّجة من الصيرفي كمال حسون.

  • جلاء مُتزوِّجة من البروفيسور عبد الرحيم كرار.

  • محمد لم يتزوِّج وتوفي إثر حادث مروري عام 2006م.

فاجعة الوفاة

ولا يزال في الذاكرة والوجدان وقائع موته الفاجع ومُلابسات مُعاملته الفَظّة والحادة من جانب قيادة انقلاب «25 مايو 1969م» تمثل أسوأ نوع من التعامل الذي يفضي إلى الموت، لقد أحاطوا منزله العريق في أم درمان بالمُدرّعات كأنهم يستعدون لخوض معركة عسكرية ضد قيادة وطنية فذّة قاومت الاستعمار ببسالة وجرأة وظلّت صلبة في المواقف والمبادئ حتى تَحَقّق الاستقلال في أول يناير 1956م، وظل مُتمسِّكاً بالقيم السُّودانية والتّسامح والتّواصل والتّواضع، ومصلحة الوطن وسلامته وحُريته ووحدته غير قابلة للمُزايدة ولا المُساومة، ومنحته الجماهير احترامها وثقتها وعرفانها، وأمسكت بخيط رحيله الفاجع الفادح، فبعد إحاطة منزله بالدّبابات ومنع خُرُوجه أو دُخُوله، واستكثروا عليه البقاء مع أسرته، فنقلوه إلى سجن كوبر.. وفي يوم «19» أغسطس، كانت الفاجعة الكُبرى بوفاة الأزهري إثر نوبة قلبية، وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها لنوبة قلبية وطلبت أسرته نقله إلى القاهرة أو لندن، فأبلغت أنّ مسؤولاً كبيراً ليس اللواء جعفر نميري، طلب أن يُعامل كغيره من المرضى في المُستشفى، وكانت حالته تتأرجح بين التحسُّن والتراجع.. وفي عصر الثلاثاء «27 أغسطس 1969م» حدثت نوبة، ونفدت أنبوبة الأوكسجين وأحضرت أخرى واتّضح أنها فارغة وبذل الأطباء جُهُودهم، ورفع الأزهري أصبعه دلالة على أنه يتلو الشهادة وعندما أكملها استرخت ملامحه وخمد نفسه وأغمض عينيه.

صرخة مُدوية

وأطلقت المستشفى من كل الحجرات والعنابر والشرفات «صرخة مُدوية عارمة» تردِّد صداها إلى أبعد مدى كانت «صرخة هائلة» بحجم الفاجعة والرحيل، عرفت العاصمة في كل أحيائها أنّ الأزهري مات، وانطلق الخبر الداوي كالصاروخ لكل بقاع السودان، وفي ذلك الوقت الكئيب كانت الدولة وأجهزة الإعلام تحظر التداول حول كل معلومة عن أو من الأزهري، كانت مُعاملة الدولة له في ذروة الظلم، ولكن الجماهير وحدها استطاعت أن تكبح صلف وغلظة السُّلطة والاندفاع من البيوت والأحياء والمُدن وبوسائل النقل المتاحة كَافّة نحو أم درمان، تَحوّل السُّودان إلى مأتم حُزنٍ بلا حُدُود، حدث كل ذلك والدولة لم تُكلِّف نفسها ولا الإذاعة ببث خبر أو بيانٍ عن وفاته، كانت دولة الانقلاب في ذروة قلقها واضطرابها وحُشُود الحزانى والغَاضبين والكَاظمين الغَيظ والغضب تتدفّق من كل صوبٍ واتجاهٍ، وتحوّلت الوفاة إلى قضية أمنية، والتقارير تتحدّث عن الحراك الشعبي للحاق بالتّشييع، وفي نشرة أخبار الوفيات في الثامنة مساء الثلاثاء «27/8/1969م» أُذيع خبر وفاته وسط الأخبار «توفي إسماعيل الأزهري المُعلِّم السابق».

وتَوجّه وفدٌ من القيادة المايوية للسيد محمد عثمان الميرغني، وطلبوا منه عدم الخُرُوج وعدم المُشاركة في التشييع، وإلا فإنّه سيتحمّل تبعات أيِّ انفلات أمني وجاء رفضه فورياً ومُباشراً، فمُشاركته تمليها الاعتبارات الدينيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، وكذلك الوفاء له، فقد كان الأزهري يقف إلى جانبه طوال فترة وفاة والده مولانا السيد علي الميرغني، وسار مشياً في مقدِّمة التشييع من شارع النيل الخرطوم إلى المثوى الأخير في بحري.

 

تعليق واحد

  1. شكر النيل الازرق علي هذا التاريخ التليد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.