جيوش القبائل في السودان… لماذا قامت وما مآلاتها؟

مراقبون: السيولة الأمنية والسياسية وانفتاح الحدود والتفاوت الطبقي وإشاعة الكراهية أبرز أسباب تناميها

جيوش القبائل في السودان… لماذا قامت وما مآلاتها؟
مراقبون: السيولة الأمنية والسياسية وانفتاح الحدود والتفاوت الطبقي وإشاعة الكراهية أبرز أسباب تناميها

ينتشر السلاح وسط القبائل السودانية مما جعل البيئة خصبة ومواتية لتكوين ميليشيات خاصة بها (اندبندنت عربية – حسن حامد)

على رغم التوجه العام المتفق عليه بالسير نحو دمج جيوش الحركات المسلحة والدعم السريع في القوات المسلحة السودانية في سياق إصلاح أمني شامل يفضي إلى بناء جيش وطني موحد بعقيدة قتالية واحدة، برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة التجييش الجهوي والقبلي بإعلان قيام “دروع مناطقية” تحمل أسماء إقليمية متعددة، مثل قوات “درع الوطن”، و”أحفاد السلطنة الزرقاء”، فماذا يقف وراء قيام جيوش كدروع قبلية وجهوية في السودان؟

قوات ودروع

كان الشرق سباقاً في التهديد بتكوين قوة عسكرية بواسطة “مجلس البجا”، ثم توالت الإعلانات بإعلان ضابط سابق بالجيش في مؤتمر صحافي ميلاد ما سمي جيش “درع قوات كيان الوطن” التي زعم أنها قوات تضم مقاتلين من ولايات الشمال والوسط (الخرطوم، الشمالية، نهر النيل، النيل الأبيض، كردفان الكبرى، الجزيرة وسنار).

بينما سارعت السلطات إلى اعتقال رئيس حركة “كيان الوطن”، الضابط السابق في الجيش السوداني الصوارمي خالد سعد، ثم أخلت سبيله في اليوم التالي، ربط نائبه محمد رحمة الله مصير جيشهم بمصير ثمانية جيوش أخرى موجودة في هذا البلد، في إشارة إلى قوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.

بدوره، أكد الأمين السياسي للمجلس الأعلى لنظارات البجا ورئيس اللجنة العليا لتقرير مصير الإقليم سيد علي أبو آمنة، عزمهم إعلان حكومة الإقليم وبناء قوة عسكرية، لكنه نفى علمه بوجود قوة عسكرية في الإقليم تحت اسم “درع الشرق”، مشيراً إلى أن “مجلس البجا” هو الكيان الوحيد المفوض من شعب البجا وفق مؤتمر “سنكات” المصيري.

وجدد أبو آمنة التمسك بقرارات المؤتمر التي تتضمن حقوقنا العادلة كما تتضمن حق تقرير المصير، وعدم قبولهم بأي اتفاق سياسي لا يشمل “مجلس البجا” وقرارات مؤتمر “سنكات”، مشدداً على أنه “من دون ذلك سيكون النزوع إلى الاستقلال ولو أجبرنا على الحرب”.

تنامي التجييش

جاءت أحدث الإعلانات في شأن العزم على إنشاء قوة عسكرية في ملتقى واسع ضم قيادات أهلية بولاية نهر النيل خلال الأسبوعين الماضيين، وشمل صراحة دعوات إلى تكوين قوات خاصة لحماية مكونات الولاية من مهددات يستشعرون أن نذرها تلوح في الأفق.

واشترط المتحدثون في هذا الملتقى أنه ما لم يتم دمج قوات الحركات في جيش واحد هو القوات المسلحة التي يثقون فيها، فإنهم سيظلون متمسكين بقيام جيشهم من أجل حمايتهم.

وقالت لجان المقاومة بولاية نهر النيل، إنها فوجئت أيضاً بأشخاص يدعون لتكوين قوات ذات طابع قبلي عشائري من داخل المساجد، مشيرة في بيان لها إلى أن المطالبين بتكوين جيش قبلي بالولاية يتذرعون بحاجتهم إلى ما سموه جيش “درع الشمال”، لحماية المنطقة في ظل وجود جيوش وحركات مسلحة متعددة في البلاد.

على نحو متصل، حذر ما يسمى كيان “منبر البطانة الحر” الأهلي، من وجود مجموعة تطلق على نفسها “درع السودان”، وتقوم بعمليات تجنيد وعسكرة في مناطق بوسط السودان.

اقرأ المزيد

من يمول جيوش السودان؟

هل ترفض الحركات المسلحة خروج جيوشها من المدن السودانية؟

حكم بوقف تحويل الأموال لكردستان العراق يضع السوداني في مأزق

السودان بين صناعة الثورة وصعوبة الانتقال
وأعلن يوسف عمارة أبو سن المتحدث باسم المنبر، في بيان له، رفضهم التحركات والأنشطة التي تسعى إلى ما سماه عسكرة المنطقة، محذراً من التبعات الخطرة التي قد تترتب على إدخال العنف إلى المناطق الآمنة.

وأوضح أبو سن أنهم ظلوا يتابعون نشاطاً يرتبط بمساع للتجنيد بالمنطقة، بعد أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أنباء عن عرض عسكري لمجموعة أطلقت على نفسها قوات “درع السودان” في البطانة بناحية جبال الغر شرقي ووسط البلاد.

وكانت تلك القوات الجديدة التي تصف نفسها بأنها جسم مستقل رافض لاتفاق “سلام جوبا”، قد ظهرت وهي ترتدي زياً عسكرياً يشبه زي الجيش السوداني. وتقول إن هدفها هو حماية إنسان الوسط والشرق ونهر النيل وكردفان والشمالية في ظل هذا الوضع الذي تنتشر فيه مجموعات مسلحة عدة ما زالت خارج القوات النظامية.

أسباب وجذور

في السياق، يرجع الأستاذ بالأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية معتصم عبدالقادر، الجذور والأسباب الرئيسة وراء تمدد ظاهرة التجييش وسط المجتمع السوداني إلى مرحلة اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1973، واستجابة الحكومات السودانية المختلفة للحركات المسلحة بمنحها نصيباً من قسمة في السلطة والثروة وترتيبات أمنية وعسكرية جعلت الجهات والمكونات المختلفة تلجأ لحمل السلاح طمعاً في تحقيق مكاسب سريعة، لكن اقتصار تلك المكاسب على قيادات ومحاسيب ومحازيب تلك الحركات وعدم إنزالها إلى العامة والمناطق المهمشة جعل ظاهرة حمل السلاح مسألة متكررة.

يشير عبدالقادر إلى أن انفتاح الحدود والاستيعاب المستمر للعناصر الوافدة إلى الأراضي السودانية، خلخل التركيبة السكانية وأخل بالتجانس وأظهر أيضاً مدى التفاوت الاقتصادي الشاسع بين المكونات الاجتماعية، فضلاً عن مساهمة التفلتات الأمنية في بعض دول الجوار بتسهيل الحصول على السلاح، مما تسبب في دوره في تفاقم الأوضاع، مشيراً إلى أن الدعم الخارجي المادي والمعنوي لمكونات اجتماعية معينة بتمويلها وتسليحها دفع بالمكونات الأخرى إلى التسلح دفاعاً عن وجودها.

كذلك أسهم ما سماه عبدالقادر “الإعلام الأسود” وإشاعة الكراهية والبغضاء عبر الفضاءات المفتوحة في إذكاء نار التفرقة وإرهاب المدنيين، مما دفعهم لاقتناء الأسلحة المختلفة وحرصهم على حماية أنفسهم في ظل أجواء تحريضية مخيفة.

على رغم كل ذلك، يعتقد المحلل الأمني أن الدولة السودانية المركزية ما زالت تمتلك القدرة والقوة على ضبط هذه التفلتات لما تمتلكه من قدرات استخباراتية وشرطية وعسكرية متفوقة وسلطات نيابية وقضائية وقوانين رادعة وفعالة، بينما يبقي عبدالقادر الأمل معقوداً على سماحة الشعب السوداني وحكمته في استيعاب وتجاوز الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد.

يحمل المحلل الأمني النخب السودانية مسؤولية الفشل في قيادة الجماهير وتوجيهها نحو بناء دولة حديثة باقتصاد حديث يرتكز على مشاريع صناعية وزراعية ضخمة تستوعب ثروات البلاد ومواردها الطبيعية والحيوانية وتضمن الرفاه والخدمات للمواطنين، الأمر الذي أدى إلى أن تكون ثروات البلاد في مرمى الطامعين الإقليميين والدوليين الذين يزرعون بذور الاقتتال والتخلف والجهل والجوع والمرض والهجرة والاغتراب.

سيناريو خطر

على ذات الصعيد، يرى محمد موسى بادي المتخصص في شؤون الحركات المسلحة، أن مظاهر التجييش تأتي في سياق السيولة الأمنية والسياسية التي انعكست على كل مظاهر الحياة العامة بالبلاد، نتيجة عدم استقرار المشهد الانتقالي وتشابك وتعدد الخلافات التي بدأت بتباعد المواقف بين شركاء الوثيقة الدستورية في المكونين المدني والعسكري.

ويضيف بادي، جاءت الخلافات الإضافية حول “اتفاق جوبا” للسلام عام 2020 لتعزز أوجه الخلاف وتقود إلى تحالفات عقدت المشهد بأكثر مما هو عليه، خصوصاً بعد قيام مجموعة من شركاء الانتقال بدعم ما يعرف بـ”اعتصام القصر”، الذي انبنت عليه إجراءات قائد الجيش في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وفض الشراكة وحل الحكومة الانتقالية.

يشير المحلل السياسي إلى أن الفراغ الذي تركته هذه الخلافات أوقف تنفيذ اتفاق السلام، وعطل الدعم المحتمل لإنفاذ الترتيبات الأمنية، مما جعل كل حركة تحتفظ بقواتها، وبذلك تعددت أوجه وجود قوات مختلفة على المشهد السياسي بكل تعقيداتها، مما بث مزيداً من التوتر وأجج المخاوف في أوساط بعض المكونات التي ظلت تشهد بروز أدوار لقوات من مناطق تمثلها حركات السلام، الأمر الذي دفع إلى الساحة بجماعات جعلتها المخاوف تنتظم في تكتلات عسكرية مدعومة بخطاب سياسي يعبر عن مناطقها ومجموعاتها.

يرى بادي أن “هذا الواقع يشكل سيناريو خطراً من الواجب على الدولة ومؤسساتها المعنية النظر إليه بالجدية اللازمة، كما أن تسارع خطى التوافق واستكمال مراحل العملية السياسية أمر في غاية الأهمية للخروج بالبلاد من المخاطر التي يجب أن تنتهي، بخاصة بعد إعلان المكون العسكري الخروج من العملية السياسية لبناء واستئناف المرحلة الانتقالية بدفع من قوى الثورة وخلفها الشعب السوداني، الذي أنهكته صراعات الأنظمة وحالت بينه والتحول المدني الديمقراطي كبديل للتعبئة السالبة التي بلغت مبلغاً خطراً.

في قلب العاصمة

وكانت محكمة مكافحة الإرهاب قضت، الأسبوع الماضي، بالسجن عاماً بحق تسعة أفراد يتبعون إحدى الحركات المسلحة وفق ادعائهم، من بينهم واحد يحمل الجنسية الأميركية، وقد دينوا بتدريب مجموعة تضم 320 فرداً في منطقة مايو جنوب الخرطوم بصورة غير مشروعة، وحمل بعضهم السلاح من دون ترخيص، وارتدى آخرون زي القوات المسلحة وهم لا يتبعون لها.

وأمرت المحكمة برئاسة القاضي محمد سر الختم عثمان، بإبعاد المدان الأجنبي إلى بلاده بعد قضاء مدة عقوبته المحددة بعام، كما قضت بسجن المدانين في القضية لمدة عام، وبرأت أربعة منهم لعدم توافر بينات تدينهم.

وكانت قوة من الاستخبارات العسكرية ضبطت المتهمين وهم يقومون بتدريب كتيبة من الأفراد دون علم السلطات في ميدان الريان، وهو آخر محطة بمايو جنوب الخرطوم.

ويعاني السودان وجود جيوش عدة في المرحلة الراهنة، فإلى جانب القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ما زالت قوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق “سلام جوبا” تحت إمرة قياداتها بعد تعثر تنفيذ الترتيبات الأمنية المرتبطة بإجراءات الدمج والتسريح لتلك القوات.

وعلى رغم توقيع الحركات المسلحة في دارفور والنيل الأزرق على اتفاق السلام مع الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2020، فإن اتفاق الترتيبات الأمنية ظل متعثراً في ظل خلافات بين أطراف الاتفاق حول عمليات الدمج والتسريح وتمويل تلك العمليات.

في الوقت ذاته، ينتشر السلاح وسط القبائل والمجموعات الجهوية والإثنية، مما جعل البيئة خصبة ومواتية لنمو المخاوف الجهوية والقبلية باتجاه تكوين ميليشيات (دروع) خاصة بها.

جمال عبد القادر البدوي صحفي سوداني
اندبندنت عربية

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.