أطفال.. تحت وطأة العمالة، الاختفاء، الاغتصاب، السرقة وترويج المخدرات

“ابلغ من العمر ثمانية أعوام، ولدت في ظل ظروف اقتصادية طاحنة طفل لأب غائب، عشت بلا معيل ولا رقيب، أمي تكابد بين دورها كأم ترعى صغارها وأب لا وجود له، وكثيرون غيري اجبرتهم ويلات الحروب والنزاعات لترك ديارهم ومزارعهم والنزوح نحو الخرطوم بعد أن أُحرقت قراهم ومات من كان يعيلهم، لم تتح لنا الحياة بأن نعيش طفولتنا، الواحد منا وجد نفسه مُلزما بأن يحمل جزءًا من مسؤوليات أكبر من سنه، مما دفعني واخرين للبحث عن العمل، ودخول اطفال في أعمارنا بين الثامنة والسابعة عشر عاماً سوق العمل، ولم يُسمح لنا فيها العيش ببراءة الأطفال ولا عناد المراهقة، أبناء جيلنا يقضون يومهم منذ الصباح في المدرسة وعصراً يلعبون ويذاكرون في المساء، أما نحن فبعضنا يذهب صباحاً للمدرسة ومنها إلى السوق، حتى يأتيه الليل ليذهب متعباً منهكاً لينام، هذا قدرنا أما البعض الآخر بدأ في التسرب من المدارس، وآخرين لم يعرفوا طريقها لندخل مجبرين في معركة غير متكافئة مع أجيال تفوقنا عمرا وخبرة”..

هذا لسان حال العديد من الاطفال العاملين بالأسواق، أو في أستوبات المرور وهم مستقبل هذا البلد المنكوب، الذين اصبحوا عرضة لكل صاحب غرض من معدومي الضمير، فيتم استغلالهم سواء في أعمال مخلة بالآداب أو كأرض خصبة لمروجي المخدرات أو في اعمال الترويج أيضا، هذا بالإضافة للتسوّل والسرقات التي قد يجنحوا لها نتيجة للضغوط التي لا يقوون على تحملها، ولاحظت (الجريدة) ارتفاع عدد عمالة الأطفال في الأشغال الهامشية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الأخيرة، حيث ظلت (الجريدة) تستقصى لأكثر من “4” أشهر حول القضية..

جرائم منظمة

تجولت (الجريدة) في مناطق تواجد الأطفال سواء كانوا باعة متجولين في الاستوبات أو مواقع أعمالهم بالأسواق في (ليبيا، الشيخ ابوزيد، أم درمان، الشعبي، وشرق النيل سوق ستة، والمركزي الخرطوم)، بالإضافة إلى الأسواق الشعبية الصغيرة بالأحياء ووقفت على كل ما يدور حول عمل الأطفال وما يمكن أن يتعرضوا له، الأطفال غالبيتهم دون الخامسة عشر، مرتدياً زيه المدرسي الذي تملأه بقع الزيوت وآثار الشحوم، بعضهم يبيع الزيت المستعمل يحمله على دراجته للتوزيع، حتى يكسب القليل معتمداً على جهده دون الحاجة لرأسمال هو لا يملكه، أيضا كان من الملاحظ أن جميع الأطفال يعملون في أشغال هامشية، تعتمد على الجهد أكثر من أي شيء آخر مما يوضح أن السبب الأساسي في نزولهم للعمل تصديهم لمسؤوليات وجدوا انفسهم يحملونها مجبرين لا مخيرين، لذلك تجد منهم من يحمل المناديل واللبان، بالإضافة إلى الليمون والنعناع، عند الاشارات المرورية، وبعضهم من يقوم بغسل العربات أو رفع وانزال الأغراض (العتالة) في المواقف وهناك من تجده يحمل حملاً أكثر من وزنه، وسط زحام السوق والجُلبة التي به وجدت مجموعة من الأطفال أعمارهم بين الثامنة والثانية عشر وهم يعملون على عربة كارو ينقلون بها الأغراض، وكان يظهر على وجوههم الأرهاق والتعب منهم من يفترش الأرض لأخذ برهةً من الراحة حتى يعاود طاقته وينهض من جديد مبتسماً، والبعض الآخر كان يمارس طفولته باللعب دون ألتفات وإكتراث للمارة هكذا هم يبحثون عن طفولتهم التي سرقت منهم بسبب الظروف المعيشية الطاحنة.

أولاد (الفرة)

وأثناء جولة التقصي داخل السوق تناهى إلى مسامعي بأنه يوجد محال لبيع (الخرد) بالمنطقة الصناعية من الناحية الجنوبية للسوق التي تضم عدد من محال بيع “الخرد من الحديد، والقوارير الفارغة، البلاستيك، الكراتين” التي يرتادها عدد كبير من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين السادسة والسابعة عشر ربيعاً لبيع “الخرد” خلال فترتي الصباح والمساء ويطلق عليهم اسم (أولاد الفرة، والدعم السريع، الذين وصفهم التجار بالعدد الضخم من الاطفال، وبعد ذلك توجهت صوب تلك المنطقة فبمجرد أن وطأت قدماي الى الداخل كان هناك مجموعة من الأطفال يتراوح اعمارهم ما بين تسعة اعوام الى 17 عاما يحملون أكياس وجوالات على ظهورهم بداخلها كميات من “القوارير الفارغة، و يصطفون أمام محال الخرد حتى يتم وزنها بغرض البيع، بالاضافة الى تواجد ما يقارب 200 طفل من “المشردين” ويضعون في أفواههم القطع المبللة “بالسليسلون” يترنحون في مشيتهم.
والتقت (الجريدة) عضو لجنة الخدمات التاجر حسن علي، الذي كشف عن ارتفاع عدد الأطفال الذين ينشطون في جمع “الخرد ، القوارير الفارغة، البلاستيك، الحديد، الكرتون، وغيرها”، إلى 5 الف و500 طفل، ولفت إلى أن البعض يطلق عليهم اسم “اولاد الفرة” ،والبعض الآخر اسم “الدعم السريع”، موضحا بأنهم يأتون من كافة الاحياء والمناطقة من محلية امبدة، ويأتي البعض منهم خلال الفترة الصباحية ويبلغ عددهم 3 ألف طفل، والبعض الآخر يتوزعون في كافة مكبات النفايات “الكوش” بالمحلية ويأتون في الفترة المسائية لبيع ما تم جمعه ويبلغ عددهم 2 ألف و500 طفل يتراوح أعمارهم ما بين 8 الى 17 عاما.

استغلال الأطفال

على الرغم من أنهم كانوا يريدون فقط توفير قوت اليوم لأسرهم بالرزق الحلال، إلا أنه كان يوجد هناك من يتربص بهم مستقلا حاجتهم للمال وعقلهم الذي يدرك ما وراء ذلك، وهذا ما تم تأكيده في أول مشهد اثناء أول جولة لـ(الجريدة) بسوق “ابو زيد ليبيا الذي يقع بمحلية أمبدة، حيث رصدت عدد من الظواهر السالبة من بينها ” السرقات، والتسول، ترويج المخدرات، التعاطي” يقوم بتنفيذها اطفال يتراوح اعمارهم ما بين 11 عاما الى 15 عاما، وكان من الملاحظ للمارة بأن الاطفال يوجد من يحميهم ويراقبهم لتنفيذ تلك الجرائم من شباب يتراوح أعمارهم ما بين 25 الى 35 عاما، واكد ذلك عدد من التجار بسوق الشيخ أبوزيد في استطلاع لـ(الجريدة) بأنه توجد جرائم منظمة ومحمية من معتادي الاجرام، وقالوا: من المؤسف أنه يتم استغلال الاطفال في السرقات، وفي ترويج المخدرات، والتسول، وكشفوا عن وقوع عدد من حالات الاغتصاب بين الأطفال ثم استغلالهم في ممارسة اللواط في بعض من محال ألعاب (البلاي ستيشن).

ترويج مخدرات

كل ذلك يؤكد بأن الاطفال يتعرضون لكافة أشكال الانتهاكات المتمثلة في عمالة الأطفال في عدد من القطاعات غير المهيكلة في الاسواق واستغلالهم في أعمال السرقة والنهب، التسول وترويج المخدرات والبغاء التي رصدتها (الجريدة) أيضا هذا أكده من جانبهم أعضاء لجنة الخدمات والتغيير لسوق الشيخ أبو زيد بليبيا أنه يتم استغلال الاطفال من عمر 12 الى 17 عاما في ترويج المخدرات في منطقة تقع داخل السوق يطلق عليها اسم “كولومبيا”، وكشفت في تصريح لـ(الجريدة) في ذات القوت بأنه يوجد شخص يطلق عليه اسم (الزعيم) يستقطب بعض من الأطفال ويقوم بتدريبهم ثم يستغلهم في السرقة، بالإضافة الى وجود جهات تقوم باستغلالهم في ترويج المخدرات.
وتابعت: للأسف بسبب الظروف الاقتصادية ارتفعت عمالة الاطفال بالسوق خاصة في نهاية العام 2022م، حيث يوجد أكثر من 9 ألف طفل، من بينهم 4 ألف طفل يعملون في الاشغال الهامشية، مثل بيع الليمون، الأواني المنزلية، المناديل، وغيرها من أعمال، بالإضافة الى تردد حوالي 5 ألف الى المنطقة الصناعية بالسوق لبيع “الخرد، من قوارير، بلاستيك، جوالات الخيش، الحديد” الذين يطلق عليهم اسم “اولاد الفترة او الدعم السريع”، ومن جهته قال الأمين العام للجنة الخدمات والتغيير بسوق ابوزيد عبد المجيد أرباب يوجد حوالي 4 ألف طفل يعملون في “الدرداقات، بيع الليمون، والاكياس، الصابون، وغيرها من أعمال هامشية” داخل السوق، واضاف: من المؤسف استغلال اصحاب النفوس الضعيفة من التجار ظروف الاطفال المعيشية كعمالة رخيصة، وحذر من أن استمرار عمل الأطفال بالأسواق سيؤدي الى الانحراف الاخلاقي تدريجيا بالاضافة الى تعرضهم الى تعاطي المخدرات واستغلالهم في ترويج المخدرات.

جرائم منظمة ومحمية

جرائم وانتهاكات تتم في حق الاطفال داخل السوق يرى رئيس لجنة الخدمات والتغيير لسوق الشيخ أبو زيد محمد آدم عبد الله عيسى، أن كل تلك الجرائم سواء كانت ترتكب في حقهم من اغتصاب، عمالة، تسول، أو استغلال بأنها جرائم منظمة ومحمية من قبل جهات نظامية سابقة تاركي الخدمة العسكرية، ودلل على ذلك بوجود اشخاص يستغلون الاطفال في “السرقة، وترويج المخدرات، التسول”، بالاضافة الى انه يوجد شخص يطلق عليه مصطلح “الزعيم” يستغل الاطفال في السرقة، وكشف عن عدد من حالات اختفاء بين الأطفال الذين يرتادون السوق للعمل في الأعمال الهامشية.
وللرد على سؤال (الجريدة) حول كيف يتم استقطاب الاطفال لترويج المخدرات؟ قال: حسب الرصد والمتابعة توجد داخل السوق مساحة تعرف بمنطقة “كولومبيا” ومن خلال ذلك تحصلنا على معلومات تأكد بأن المروجين يعطون هؤلاء الأطفال المخدرات مجانا لكي يتعاطونها في البداية وبعد فترة يستغلونهم في الترويج، وأكد على أنهم قدموا شكوى للجهات النظامية، وخاطبوا لجنة أمن الولاية وطالبنا بتوفير شعبة التأمين لمحاربة الجريمة المنظمة، وأردف: على الرغم من أن الجهات قامت بإزالة منطقة “كولومبيا” الا انه ما زال العمل قائما.
وناشد الجهات ذات الاختصاص ومنظمات المجتمع المدني بتكاتف الجهود والعمل بشكل جاد لوقف تلك الجرائم التي ترتكب في حق الاطفال، بأن تتبنى معالجة قضايا الاطفال الاقتصادية بتوفير مشاريع للأسر المتعففة والأرامل بشكل مباشر، وطالب الجهات ذات الاختصاص بضرورة عمل الإجراءات اللازمة بحوسبة عمل السوق بإجراء حصر الأنشطة المؤقتة والثابتة وتمليكها لأشخاص معروفين.

مهن هامشية

ولم يختلف المشهد في سوق أم درمان، حيث كشف عضو تجمع تجار سوق أم درمان الضو عبد القادر عن ارتفاع عدد الاطفال الذين يعملون بمهن هامشية داخل سوق الى 5 ألف طفل، تتراوح اعمارهم ما بين 10 ربيعا الى 17 ربيعا، مثل “بيع المناديل والأكياس بجميع أنواعها والحلويات والليمون والنعناع الدرداقات والأواني المنزلية، بالإضافة الى التسول ومساعدة أحد الوالدين وتركهم الدراسة، وقال حسب الرصد أكد عدد من الاطفال داخل السوق بأن سبب تسربهم من المدارس عدم استطاعتهم بتسديد الرسوم المدرسية، بالاضافة الى الظروف المعيشية، إلا أنه عاد واستدرك قائلا: لكن من المؤسف أن الحكومة لا تكتفي بتقصيرها في تطبيق القوانين، بل تتخذ إجراءات لجباية الأموال من هؤلاء الأطفال التعساء، ومن أمثلة ذلك ما تفعله المحليات (الوحدات الإدارية الصغرى) في تنظيم عمل الأطفال بالأسواق، حيث تفرض عليهم استئجار العربات اليدوية (الدرداقات) من متعهدين يقومون باستلام عائد عمل الأطفال ثم يمنحونهم الفتات، ويتقاسمون الأموال لاحقا مع المحليات.

خطورة الوضع بالخلاوي

هناك اشكاليات أخرى تواجه الأطفال في بعض خلاوي تحفيظ القرآن الكريم، وفي تقييم لرئيس المفوضية القومية لحقوق الإنسان د.رفعت ميرغني عباس لوضع الاطفال داخل بعض من الخلاوي، وصف وضعهم بالخطير جدا الذي يتطلب تدخل الدولة، كاشفا في ذات الوقت عن أنه وردت إليهم شكاوى مفادها أن بعض الاطفال يستغلون في التسول تحت ادارة أشخاص من تلك الخلاوي، بالاضافة الى مزاعم بشأن تعرض بعضهم للتحرش او الاعتداءات الجنسية ، وتعرض بعضهم للعنف، وشدد على ضرورة أن يكون التعليم الابتدائي إلزاميا وأن لا يترك الأطفال في الخلاوي الى أي جهة تتبع لهذه الخلاوي، وأن توفر الدولة وتوفير الرقابة والمتابعة لحماية الأطفال الذين يدرسون فيها في تلك الخلاوي، كما شدّد على ضرورة أن تتم معالجة هذا الملف بشجاعة ووضوح، لجهة أن هؤلاء الأطفال غالبا يخضعون لهذه الخلاوي بناء على رغبة ذويهم، ولا أحد يعرف كيف تتم معاملتهم وما هي القيم التي يدرسونها ولا كيف ينشأون في ظل وجود أطفال مع مراهقين مع كبار في السن.

سودافاكس

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.