الحلم الأوروبي يحصد أرواح شباب السودان تحت أمواج المتوسط

يبدو أن آلاف الشباب السودانيين لا يزالون يصرون على الوصول إلى البلدان الأوروبية عبر الصحراء وقوارب الهجرة غير الشرعية متجاهلين حكايات الموت والرعب التي تكتنف الرحلة إلى هناك، والمئات أمثالهم الذين ابتلعتهم أمواج البحر المتوسط، فها هي مأساة جديدة تكتب نهاية مغامرة 95 مهاجراً غير شرعي معظمهم من الشباب السوداني، بغرق وفقدان نحو 45 منهم في مياه البحر المتوسط، ونجاة 40، إثر تعطل أحد “قوارب الموت” قبالة مدينة الخمس الليبية كان يقلهم بشكل غير شرعي في طريقهم إلى “أرض الأحلام” أوروبا.

الحقيقة والفاجعة

وهز نبأ الحادث المفجع الأوساط السودانية كون معظم المنكوبين من الشباب الحالم بمستقبل جديد على الأرض الأوروبية التي خططوا للوصول إليها وبدء حياة جديدة هناك، علها تفتح أفقاً مختلفاً عما يعيشونه في بلدهم، وذلك رغم عدم تحديد هويات المتوفين والمفقودين وإعلانها حتى الآن. ودرج كثيرون ممن يعتزمون شق هذا الطريق من الشباب لعلمهم بما يكتنف الرحلة من مشاق ومخاطر، على توديع أسرهم ووالديهم وكأن بعضهم يعلم أنه ربما لن يعود أبداً.
وأكد مسؤول برنامج الحد من الهجرة غير الشرعية والعودة الطوعية للجاليات السودانية بليبيا مالك الديجاوي أن “95 سودانياً بين قتيل ومفقود وموقوف منذ الثلاثاء الماضي، بعد تعطل قارب هجرة غير شرعي قبالة مدينة الخمس الليبية، نحو 150 كيلومتراً شرق العاصمة الليبية طرابلس”. وكشف الديجاوي، عن انتشال نحو 11 جثة ونقلها إلى مستشفى الزاوية، بينما لا يزال عشرات المهاجرين في عداد المفقودين فضلاً عن آخرين تم توقيفهم وترحيلهم إلى مركز إيواء مخصص للمهاجرين غير الشرعيين بمنطقة الخمس.

تعطل قارب الموت

وتحرك القارب، فجر الثلاثاء 14 فبراير (شباط) الحالي، من منطقة العلوص التابعة للخمس على متنه 95 مهاجراً سودانياً إضافة إلى 10 آخرين من جنسيات أفريقية أخرى، وفق الديجاوي، لكن محرك القارب تعطل على بعد 250 متراً من الشاطئ وتسربت المياه إلى داخله، ما دفع بالمهاجرين إلى القفز في المياه والسباحة في محاولة الوصول إلى الشاطئ. وأضاف أنه “نتيجة عدم ابتعاد القارب كثيراً تم سحبه بواسطة المهربين إلى البر، فهرب بعض من تبقى على متنه بينما ألقي القبض على بعضهم الآخر وتم إرسالهم إلى مركز إيواء الهجرة غير الشرعية بالمنطقة”، مؤكداً وفاة أحد المهاجرين السودانيين على الفور بسبب شدة البرد.
وانتشلت جمعية الهلال الأحمر، فرع مدينة الخمس الليبية، 11 جثة بينهم امرأة واحدة وجرى إنقاذ 7 آخرين، بعد غرق مركب كان يقل مهاجرين قبالة شواطئ المدينة غرب ليبيا. وطالبت منظمة رصد الجرائم في ليبيا، السلطات في كل من ليبيا والاتحاد الأوروبي تحمل مسؤولياتها تجاه المهاجرين عبر البحر، عبر إيجاد آليات فعالة للإنقاذ والبحث عن المفقودين وتحديد هوياتهم، لوقف الخسائر الفادحة في الأرواح.

الحظ والمصير

في السياق، أوضحت الأكاديمية المتخصصة في شؤون الهجرة سلوى كباشي التني، أن “كثيراً من الشباب السودانيين يخرجون من البلاد بالطرق الشرعية ثم يتعرضون بعد ذلك لعمليات التهريب بعضهم عبر الصحراء إلى ليبيا بطرق غير قانونية يتحولون بعدها إلى مهاجرين غير شرعيين ويجردون من جميع حقوقهم، حتى أوراقهم الثبوتية، ثم يستقلون عربات مموهة (غير مخصصة لنقل البشر) كالبرادات والشاحنات الأخرى حتى حدود شمال ليبيا”.

وأشارت التني إلى أنه “في المرحلة التالية من الرحلة يلعب الحظ دوراً أساسياً في مصير أولئك الشباب، فربما يقعون في أيدي تجار البشر بعد أن يتخلى عنهم المهرب لتبدأ (حسب روايات مجموعة منهم) رحلة أخرى أشد مرارة من مواجع السفر وهجير الصحراء هي الاتجار بهم وتعذيبهم وابتزازهم على أيدى تلك العصابات، أما في حال القبض عليهم بواسطة قوات حرس الحدود الرسمي ومكافحة التهريب والاتجار بالبشر، فستتم إعادتهم إلى بلادهم”.
ولفتت الباحثة في مجال الهجرة إلى أن “الذين يتم القبض عليهم وإعادتهم قبل الوصول إلى البحر ذكروا أنهم تعرضوا لمآسي تخلف جراحاً سيكولوجية عميقة على شخصياتهم، بما يمكن وصفه بدمار نفسي شامل وإعاقات ذهنية ونفسية تستدعي إعادة تأهيلهم حتى يتمكنوا من العودة لممارسة حياتهم الطبيعية”.
وكشفت التني أن دراسة أجرتها على 100 من الشباب ممن تمت إعادتهم من منتصف الرحلة المميتة أكدوا مواجهتهم أهوالاً مروعة خلال محاولتهم الوصول إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، تسببت لكثيرين منهم “بتشوهات نفسية وبدنية غائرة وانتهكت حقوقهم كبشر وتحطمت شخصياتهم تماماً، بل باتوا يمثلون مشكلة مجتمعية تحتاج إلى معالجة بالدعم المعنوي والمادي لانتشالهم من آثار تلك المحاولة”.

إصرار على المغامرة

الغريب أنه وعلى رغم تلك الفظائع التي جابهها هؤلاء، كشفت مجموعة الدراسة أنه ما زال لديهم الاستعداد للمحاولة مرة أخرى، تحت ضغط الوصمة المجتمعية باعتقادهم أنهم بعودتهم إنما يخيبون ظن أهلهم وأسرهم بعد الكلفة التي دفعت لسفرهم، غير مبالين بكل ما سبق وتعرضوا له في سبيل الحلم بحياة كريمة.
وذكرت التني أن “أولئك الشباب قالوا إنهم كانوا يدركون خطورة المغامرة بالسفر بواسطة زوارق الموت عبر المتوسط لكنهم لم يكونوا يعتقدون أن التعذيب سيبدأ في الصحراء ومجاهلها قبل وصولهم إلى الشواطئ، كما هناك من وصل الشاطئ لكنه وقع في أيدي عصابات الاتجار بالبشر قبل أن يصل إلى الزورق”.
وأوضحت الباحثة في كمجال الهجرة، أن “الصور والرسائل التي يرسلها الشباب الذين حالفهم الحظ بالوصول إلى أوروبا عن أوضاعهم وأحوالهم، تعزز الدوافع وتشكل مزيداً من الإغراء والتحفيز للمخاطرة بكل شيء في سبيل اللحاق بهم”. ولفتت إلى “صعوبة رصد الهجرة غير الشرعية بواسطة السلطات الحكومية، لأن كل ترتيباتها تتم سراً وبتنسيق بين المهربين، خصوصاً في ظل غياب عقوبة قانونية محددة تجاه مهرب البشر”، لافتة إلى أن “قانون مكافحة الاتجار بالبشر الذي صدر في عام 2014 يخضع الآن لبعض التعديلات لإزالة بعض التداخلات والخلط بين مهرب البشر والمتاجر بهم”.

وجهة المغرب

وعن تحول كثير من الشباب في الآونة الأخيرة إلى شواطئ المغرب بدلاً من ليبيا لعبور المتوسط باتجاه أوروبا، أوضحت التني أن “شواطئ المغرب لم تكن معروفة من قبل للشباب السودانيين، لكن ربما اتجهوا إلى هناك بمشورة المهربين، رغم الضوابط العالية والمشددة على الهجرة غير الشرعية من قبل السلطات المغربية، مما يرفع من درجة المخاطرة”.
وكانت صحيفة “لوموند” الفرنسية، كشفت في تحقيق صحافي في أغسطس (آب) الماضي، تحول وجهة السودانيين إلى المغرب سعياً وراء الهجرة إلى أوروبا، نتيجة العنف المتزايد الذي يواجهونه في ليبيا، إذ سجلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نحو 1350 طالب لجوء ولاجئاً سودانياً في المملكة المغربية، في مقابل 150 طلباً قبل عام واحد، في حين انخفض عدد المهاجرين السودانيين الذين يصلون إلى إيطاليا، لا سيما من ليبيا، في السنوات الأخيرة.

مفوضية للمهاجرين

وأنشأ السودان منتصف أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي مفوضية المهاجرين السودانيين بإجازة القانون الخاص بها، في 17 أكتوبر 2022.
وأوضح وزير العدل المكلف، محمد سعيد الحلو، أن “قانون مفوضية المهاجرين السودانيين (الذي لم ير النور حتى اليوم)، يهدف إلى دعم وتشجيع الهجرة المنظمة والتوعية بمخاطر الهجرة غير المنظمة ودعم القدرة التنافسية للمهاجرين وحماية حقوقهم عبر توفير الضمانات اللازمة، بجانب العمل على تعزيز النظرة الاستراتيجية للدولة في إدارة الهجرة فضلاً عن تبسيط الإجراءات الهجرية وتطويرها”.
ويهدف القانون أيضاً وفق الحلو، إلى نقل المعرفة وتطبيقاتها عبر الكفاءات السودانية المهاجرة وتعزيز دور المهاجر الثقافي في التعريف بالسودان، مشيراً إلى أن “مفوضية المهاجرين السودانيين التي ستنشأ بموجب القانون ستختص بتنظيم الهجرة عبر تطوير القوانين واللوائح الخاصة بها على نحو يحقق المنفعة للدولة والمهاجر بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة”. وأضاف أن “القانون يهدف كذلك إلى ربط الهجرة بالتنمية ونقل المعرفة والمكاسب الاقتصادية والمعرفية والثقافية للمهاجر والوطن”.

تكرر المآسي

وفي مطلع أبريل (نيسان) من العام الماضي، لقي نحو 18 من الشباب السودانيين حتفهم غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط، إثر انقلاب القارب الذي كان يقلهم من ليبيا في اتجاه الشواطئ الإيطالية.

وقضى آلاف المهاجرين من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غرقاً في البحر المتوسط خلال الأعوام الماضية أثناء محاولتهم الوصول إلى الدول الأوروبية.
وسجلت منظمة الدولية للهجرة بحسب الانتباهة وصول أكثر من 109 آلاف مهاجر غير شرعي العام الماضي إلى دول أوروبية مطلة على البحر المتوسط، كما أن ما لا يقل عن 1522 مهاجراً غير شرعي، لقوا مصرعهم في البحر.
ويعتبر العامل الاقتصادي وما خلفه من دواعي الإحباط وانسداد الأفق أمام طموحات وتطلعات الشباب السودانيين وضيق فرص العمل اللائق بالنسبة لهم، أبرز الدوافع لدى كثيرين من الشباب لاختيار الطريق الصعب للهجرة غير الشرعية.
ويعزو باحثون اجتماعيون، مخاطرة كثيرين من الشباب السوداني بكل ما يملكون بما في ذلك حياتهم من أجل بناء مستقبل مختلف يستطيعون من خلاله مساعدة أسرهم في بلدهم الذي قاربت فيه معدلات الفقر نسبة 80 في المئة، فضلاً عن ارتفاع البطالة خصوصاً في وسط الشباب إلى ما يفوق الـ40 في المئة، بينما تعيش البلاد أزمة معيشية خانقة وتدهوراً اقتصادياً مطرداً وأوضاعاً أمنية وسياسية مضطربة دفعت بكثيرين إلى الهجرة.

سودافاكس

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.