سلامة الغذاء في السودان بين فكي الفقر وتفشي الغش والتلاعب

يعتقد كثيرون أن انعدام الغذاء قد يدفع إلى التضحية بمعايير جودته وصحته، وأن سلامته تتضاءل أمام سطوة الجوع والفقر، وقد يصبح التدقيق في الصحة والسلامة ضرباً من الترف، فالقلق بشأن عدم وجود الطعام بحد ذاته قد يطيح بكل المحاذير. وتتجلى خطورة الوضع في بروز سلوك وسط كثير من المواطنين، الرازحين تحت الضغط المعيشي غير مبالين بصحة ومعايير السلامة الغذائية بقدر ما يركزون على الحصول على الطعام نفسه أياً كانت حالته، وهذا ما يسمى بحال اللامبالاة تحت ضغوط المعيشة والحياة.

منظومة جيدة ولكن

على رغم امتلاك السودان منظومة تشريعات ولوائح وآليات وطنية متعددة على الصعيدين الرسمي والشعبي، لكن لا تزال ظاهرة أسواق البلاد التي تعج بمنتجات غذائية سواء كانت محلية الصنع أم مستوردة، تشكل هاجساً كبيراً يصل إلى درجة تهديد السلامة الغذائية، مما يطرح تساؤلات عدة حول فعالية تلك الآليات والقوانين وقدرتها على كبح جماح هذه الظاهرة المتنامية التي تستغل حاجة المواطن المستهلك، ومراقبة وردع المخالفين والمتلاعبين بقوت الناس وصحتهم.
لا يكاد يمر يوم إلا وتعلن هيئة المواصفات ونيابة ومباحث حماية المستهلك عن تلف كميات من السلع يتجاوز بعضها مئات الأطنان في ولاية من ولايات السودان، في ظل موجة كساد كبيرة وضعف بالغ للقوة الشرائية لدى المواطنين بسبب تراجع مداخيلهم، في ظل تقادم تواريخ إنتاج السلع المنتشرة على رفوف المحلات وجوانب الشوارع العامة.
وبحسب مصادر حقوقية، تشهد مكبات النفايات الرئيسة في معظم مدن السودان حركة لا تكاد تتوقف بإتلاف عشرات وأحياناً مئات الأطنان من المنتجات والسلع الغذائية المنتهية الصلاحية التي يتم ضبطها ضمن الحملات المكثفة التي تقوم بها الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس بالعاصمة. وتكفي الإشارة إلى أن حصيلة 48 ساعة، بلغت ما يقارب من 400 طن من المواد والسلع الفاسدة منتهية الصلاحية، نتيجة حملاتها في أربع ولايات فقط منها الخرطوم، والجزيرة، ودارفور ونهر النيل تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الجنيهات السودانية.

إبادة متكررة للسلع

وتوقعت المصادر الحقوقية ذاتها أن تستمر حملات تلف السلع الغذائية الفاسدة بسبب حال الكساد والركود التي تشهدها الأسواق السودانية، مما يتسبب في تزايد تكدس السلع الغذائية المحلية والمستوردة وسرعة تلفها، في ظل ضعف القوة الشرائية لدى المواطنين نتيجة الارتفاع الكبير في أسعارها مقارنة بتراجع مستوى مداخيل الأفراد واستمرار الأزمة الاقتصادية والغلاء المعيشي المتصاعد، فضلاً عن تزايد الرسوم الحكومية الجمركية والضريبية التي تدفع أيضاً إلى زيادة الأسعار.
وتشير المصادر إلى أنه “إلى جانب تحديث حزمة القوانين واللوائح، تواجه مسألة السلامة الغذائية والرقابة عليها تحديات عدة ترتبط بشح الموازنات في العاصمة والولايات بالتالي شح أدوات المتابعة والإشراف والرقابة الميدانية وعلى رأسها المعامل المرجعية المتقدمة والمتخصصة عند المنافذ والمعابر الحدودية، فضلاً عن ضعف التنسيق بين الجهات المختلفة المعنية بهذا الموضوع”.

تحديث القوانين

في السياق، أوضح عبدالباقي عيسى، الأمين العام المكلف لجهاز حماية المستهلك، لأن “السودان يحقق تقدماً ملموساً في مساعيه لتحديث النظم التشريعية لحماية وسلامة الغذاء”، مشيراً إلى “الخطوات الجارية لتطوير قانون الرقابة على الأطعمة لعام 1973 وتحويله إلى قانون خاص بسلامة الأغذية والأطعمة الذي هو الآن قيد النظر أمام الجهات المختصة في مجلسي السيادة الانتقالي والوزراء”، لافتاً إلى أن “قانون حماية المستهلك لعام 2019 الساري تضمن آليات عدة على رأسها لجنة مختصة بالسلامة الغذائية تمارس مهماتها عبر الجهاز القومي لحماية المستهلك الذي ستكون له أيضاً فروع بكل ولايات البلاد ولها أيضاً لجان متخصصة بحسب أنشطتها في هذا المجال”. وأضاف عيسى أن “القانون يمنح جهاز حماية المستهلك صلاحيات مهمة في مجالات الرقابة والتفتيش على كل المنشآت التي تتعامل مع الأغذية، إنتاجاً وتوزيعاً، لضمان سلامتها وجودتها وفق المعايير والمواصفات المحددة. ويتضمن القانون عقوبات صارمة على المخالفين كفيلة بردع الأنشطة كافة التي تهدد السلامة الغذائية للناس، فضلاً عن توسيع دائرة الشركاء بوضع منظمات المجتمع المدني ذراع وشريك أصيل في تنفيذ تلك المهمات.
واعتبر أمين جهاز حماية المستهلك المكلف أن “تجربة السودان مميزة في مجال حماية المستهلك بوجود قانون قومي مختص إلى جانب وجود نيابة وشرطة متخصصتين في المجال نفسه”.
دورة وإجراءات السلامة

على المنحى نفسه، أوضحت الدكتورة أحلام الصائغ، اختصاصية صحة الغذاء وأنظمة الجودة، أن “وزارة الصحة تلعب دوراً مهماً في تأمين سلامة الغذاء بوضعها اشتراطات بواسطة إدارة الرقابة على الأطعمة، التي تقتضي ضرورة سحب وملء استمارة قبل الشروع في أية خطوة لتسجيل أي منتج غذائي بواسطة الوزارة، يتضمن ذلك إدخال بيانات المنتج مسبقاً وإرسال العينات إلى المعمل المركزي لفحصها كيماوياً وميكرو بيولوجياً قبل الإذن والسماح بمباشرة إنتاجه”.
وأشارت الصائغ إلى أنه “بمقتضى قانون الرقابة على الأغذية، لا بد من دخول أي منتج إلى اللجنة المختصة للوفاء بشروط التسجيل المطلوبة والمتسقة مع الديباجة ثم يمر على رقابة الأغذية لفحص البيانات المقروءة على بطاقة المنتج مع نتائج التحليل الصادرة من المعمل المركزي (استاك) ليمنح في حال استيفاء تلك الاشتراطات شهادة بذلك”. وأضافت أنه “في الوقت نفسه، تقوم الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس بالفحص الكيماوي والبكتيري لأي منتج وفقاً للمواصفة الصادرة منها، ليخضع لسلسلة الإجراءات المطلوبة، ثم الحصول على شهادة التسجيل يتم إصدارها للمنتجات المستوفية للشروط”، فضلاً عن كل ذلك هناك آلية أخرى للزيارات المفاجئة للمصانع المحلية الغذائية الزراعية ومنتجات ومكرونة وزيوت دقيق وغيرها”.

ضوابط دخول الأغذية

وفي ما يختص بالسلع والمنتجات المستوردة فإن أي مستورد يرغب في استيراد سلعة بعينها، مطالب بإحضار شهادة مطابقة متضمنة أيضاً الفحص وشهادة الصحة من المنشأ، وينطبق ذلك أيضاً وفق الصائغ، على مدخلات الإنتاج السلعية، ثم تقوم هيئة المواصفات بمقارنة الشهادات المقدمة مع المواصفة الموضوعة من جانبها قبل السماح للمصدر في الجانب الآخر بإدخال تلك السلعة أو المادة إلى البلاد، التي تخضع للفحص مجدداً عند وصولها إلى الميناء بواسطة هيئة المواصفات ووزارة الصحة إضافة إلى مجلس السلامة الأحيائية حتى يتم بموجبها الإفراج عن السلع. وأضافت اختصاصية السلامة الغذائية، أن “هيئة المواصفات ووزارة الصحة في إطار متابعتها تقوم بالرقابة وحملات التفتيش الفجائية من أجل مراجعة العمال، والكروت الصحية، والنظافة، والتداول السليم للمنتج بين العاملين، ويشمل ذلك التخزين وبيئة المخازن والظروف المحيطة بالإنتاج والتأكد من سلامة مدخلات الإنتاج نفسها، ويعدون تقارير بذلك كما يتم سحب عينات عشوائية. ويفحص العمال أنفسهم بمراجعة الكروت الصحية كل ستة أشهر للاطمئنان عليهم وتجديد كروتهم الصحية، وإخضاعهم لدورات في نظافة الشخصية والملبس والاشتراطات الأخرى، ثم تؤخذ عينات للمنتج نفسه للاطمئنان على سلامتها، فاللحوم مثلاً تخرج من المسالخ بشهادة الطبيب البيطري الحكومي وبالختم الرسمي عليها، لأنها تمثل مدخلاً مهماً لصناعات غذائية أخرى، لذلك ترسل عينات منها إلى وزارة الصحة وهيئة المواصفات وتقوم كل منها على حدة بفحصها”.

انتشار وتلاعب

يرجع الناشط في مجال حماية المستهلك على عمر الأمين، سبب تنامي ظاهرة الانتشار الكبير للسلع الفاسدة ومنتهية الصلاحية في مناطق عدة بالبلاد إلى “استغلال صغار التجار ظروف المواطنين والأوضاع الاقتصادية المتردية، وبحثهم عن سلع رخيصة بغض النظر عن سلامتها أو جودتها أو انتهاء فترة صلاحيتها، واستغل آخرون هذا الوضع لممارسة الغش والتزوير بالتلاعب وتغيير تاريخ صلاحية السلع نتيجة غياب الرقابة من قبل السلطات المختصة”.
واعتبر الأمين أن “السبب الرئيس لاستمرار وجود تلك السلع بكثرة في أطراف العاصمة السودانية، هو سوء الأوضاع الاقتصادية والضائقة المعيشية، إلى جانب تعدد حدود البلاد واتساعها ودخول سلع غير مؤهلة عن طريق التهريب. وفاقم الأمر وجود السلع الفاسدة معروضة على قارعة الطريق وانتشار ما يعرف بطعام الشوارع، بسبب ضعف الرقابة والتنسيق بين الجهات المختصة ذات الصلة”، مشدداً على “الدور المهم للتثقيف والتوعية المجتمعية في تحجيم وإنهاء هذه الظاهرة، بخاصة بعدما كثرت أساليب الغش التجاري وتنوعت، وأبرزها تغيير تاريخ صلاحية السلع نتيجة ضعف الرقابة”.
في السياق تقوم منظمة سلامة وجودة الغذاء في السودان (فسكو) بأدوار مجتمعية تهدف إلى تعزيز المفهوم الشامل لسلامة وتطوير النشاط الغذائي بما يتوافق مع القوانين والتشريعات وأفضل الممارسات الإقليمية والعالمية. وتعمل المنظمة على نشر ثقافة سلامة وجودة الغذاء ورفع الوعي لدى المستهلكين والمنتجين وبناء القدرات والتأهيل والاهتمام بالكوادر العاملة في هذا المجال.
ويعاني الاقتصاد السوداني منذ أكثر من عامين تدهوراً مطرداً بسب توقف مشاريع كبيرة عدة في البلاد، فضلاً عن مشكلات هيكلية أثرت بشكل عميق في الوضع المعيشي للمواطنين والنشاط التجاري على حد السواء.
وارتفعت واردات السودان الغذائية خلال الربع الأول من عام 2022، وفقاً لتقرير صادر عن بنك السودان المركزي، إلى 893 مليون دولار، في مقابل 430.9 مليون دولار في عام 2021.

اندبندنت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.