لا تكاد الأوضاع في السودان تهدأ برهة حتى تنفجر الخلافات من جديد، ففي أقرب الاحتمالات، كما يرى مراقبون، ستتجه أوضاع هذا البلد إلى صدام دام بين أطراف المكون العسكري الذي نجحت قوى خارجية بمساعدة أطراف داخلية إلى زرع الشقاق والفتنة بينه، وسيضرب استقطاب حاد بأطنابه على الساحة السودانية التي تتهيأ لأحداث جسام إذا لم تتوفر الحكمة ويتدخل عقلاء هذا البلد ليلجموا نار التوتر التي لا تبقي ولا تذر.
حالة الانقسام الأفقي والرأسي ليست على مستوى الحركة السياسية المنقسمة أصلا، إنما على مستوى الكيانات العسكرية التي تعيش واقعا معقدا. أخطأت القيادة العسكرية للجيش السوداني من البداية عندما سمحت باستمرار حالة التفريط والسيولة الأمنية والسياسية وسمحت للتدخلات الخارجية بأجندتها السافرة وفتحت الأبواب على مصراعيها للقوى الدولية لتنشب أظفارها في الداخل السوداني وتعبث فيه، في محاولة لإعادة تركيبه سياسيا وأمنيا وعسكريا بما يخدم مصالحها ومخططاتها، حيث لن يكون السودان كما كان إذا نجح النصل الخارجي في تقطيع أوصال التماسك الوطني.
بينما تتعثر العملية السياسية في الفناء المحرم للقوات المسلحة السودانية، وهي أقدم وأقوى مؤسسات الدولة، مع رجحان فشل التسوية السياسية بعد اصطدامها بعقبة دمج قوات الدعم السريع في الجيش، يصبح الحديث عن تجاوز الأزمة الحالية وطي صفحة الخلافات بين الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري ضربا من الخيال المجنح.
فقد ألغيت المواقيت المضروبة لتوقيع الاتفاق النهائي وتشكيل ما يسمي بالسلطة المدنية في الأول والسادس والـ11 من أبريل/نيسان الجاري، وهي مواقيت تم اختيارها وتحديدها بعناية لرمزيتها في التاريخ السياسي السوداني، وفشلت أهم ورشة من ورش الاتفاق الإطاري المتممة لما سبقتها من ورش وهي ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، بعد أن بان فيها حجم الخلاف بين المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع ومجموعة الحرية والتغيير-المجلس المركزي الشق المدني في التسوية السياسية، وأصبح موضوع الإصلاح الأمني والعسكري بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
مهما تعددت التطمينات، فقد بات جليا أن الكلفة ستكون عالية في كلا المسارين الظاهرين بالنسبة لقيادة الجيش في حال تمت تسوية الخلاف بحل توافقي على الحد الأدنى كما تسعى إليه الآلية الثلاثية وبعثات الامم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد واللجنة الرباعية التي تضم سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، أو اتجهت الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق الإطاري بمساندة القوى الخارجية بالضغط على قيادة الجيش لقبول مسألة التوقيع على مسودة الاتفاق السياسي النهائي، وتأجيل البت في قضية الدمج والنقاط الأخرى في ملف الإصلاح الأمني والعسكري.
كان واضحا منذ البداية أن تحالف الدعم السريع مع الحرية والتغيير-المجلس المركزي يسعى إلى نبش فكرة قديمة طرحت في أبريل/نيسان 2019، بعد أسبوع من الإطاحة بالرئيس عمر البشير، عندما حط في الخرطوم وفد سياسي واستخباري إماراتي حمل معه مقترحا عُد على عجل وقدم لقيادة الدعم السريع، وتمت مناقشة المقترح في إطار ضيق، كان هدف المقترح هو تكوين جيش مواز للجيش السوداني، بجانب قائمة طويلة لإحالة عدد من ضباط الجيش والأمن والشرطة إلى التقاعد تحت ذريعة تصفية هذه المؤسسات من عناصر النظام السابق لتمهيد الطريق وإفساح المجال لتنفيذ المقترح.
حوت فكرة الجيش الموازي الوافدة من الخارج نموذجين تمت دراستهما بدقة، النموذج الأول الذي يقوم على صيغتين متشابهتين هما “الحرس الوطني السعودي” و”الحرس الثوري الإيراني”، والنموذج الثاني هو صيغة “حزب الله اللبناني”.
في النموذج الأول للحرسين السعودي والإيراني، أشير إلى أنها قوات موازية للجيشين السعودي والإيراني لها تسليحها الخاص ومهامها وأدوارها، لكنها خاضعة لسلطة الدولة في كلا البلدين وتحت إمرتها، رغم الصلاحيات شبه المستقلة لهاتين المؤسستين العسكريتين، أما النموذج الثاني (قوات حزب الله اللبناني)، فهو يمثل دولة داخل دولة له جيشه الخاص ومؤسساته المالية وسلطته السياسية وظهيره السياسي وحلفاؤه، مع عدم خضوعه بالكامل لأي سلطة أخرى في الدولة اللبنانية، وتتأسس مشروعيته من مهامه التي يحددها قادة الحزب، وكما يتحدد التشغيل العملياتي وفقا لمسارات ومتغيرات الأوضاع السياسية والمهددات الأمنية.
من خلال النقاشات المحدودة جدا التي دارت داخل الخرطوم وخارجها، فإن الصيغة الأقرب للتطبيق كانت هي نموذج حزب الله، وقيل يومها إن التجربة إذا ما طبقت ستكون أكثر إحكاما وتأثيرا على الدولة ومؤسساتها لجمعها العوامل المشار إليها في نموذج حزب الله، بالإضافة للأفضلية بوجود دور بارز ومشارك في سلطة القرار السياسي وسعي حثيث للتحكم في قيادة الدولة خلال الفترة الانتقالية.
لربما أرادت أبو ظبي أن تنتهج نهج إيران بأن يكون لها جيشها ودولتها الموالية داخل الدولة السودانية وصناعة نسخة أفروعربية من قوات فاغنر الروسية في المنطقة. ظلت الفكرة وتصوراتها تختمر وتتفاعل بعيدا عن مساقط الأضواء، ويتم التهامس وخضعت لمدارسة روسية من فريق مختص أوفدته شركة فاغنر، وكانت الفجوة التي ينبغي تجسيرها هي إيجاد وتجهيز الوقود السياسي الحيوي لانطلاق وتنفيذ الفكرة، وحيث لم يكن الوقت آنئذ مناسبا لطرحها علنا والمضي بها إلى الأمام دون توليد الحاضن السياسي.
أحيلت الفكرة والتصور إلى دهليز خافت الضوء في حالة الشد والجذب السياسي خلال حكومتي حمدوك، ثم تبرق إذا اقترب أصحابها من أحزاب وجماعات الاستوزار والهرولة السياسية وتنظيمات البترودولار. مع ذلك، تواصلت عملية صناعة الوقود السياسي الحيوي وإبقاء الفكرة في حالة الإنعاش، جرت عديد من المحاولات في اتجاهات داخلية وخارجية لتسويق عملية صناعة الجيش الموازي وشرعنة وجوده، ولم تتوقف التحضيرات على الإطلاق ولم تتأثر بما يطرأ في الطقس السياسي العام.
قبيل الإعلان عن التسوية السياسية، في الأسابيع التي سبقت خطاب برهان يوم الرابع من يوليو/تموز الماضي الذي حدد بموجبه خروج الجيش من العمل السياسي، نُسج الرداء المزركش الزلِق للتحالف بين قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي وقيادة الدعم السريع، وراق هذا التحالف لرئيس البعثة الأممية بالسودان والشركاء العرب الخليجيين وبعض الأطراف الغربية التي كان لها قراءتها وتقديراتها الخاصة للاستفادة من هذا التحالف في تمرير الأجندة الغربية وصياغة الأوضاع في السودان من جديد.
ليس بالضرورة أن تكون الأجندة الغربية متطابقة بالكامل مع الطموح السياسي والمعطيات الظرفية الأخرى، الغربيون يريدون استخدام كلا الطرفين المتحالفين للوصول لأهدافهم المعلنة والمستترة في السودان، ثم لكل حادث حديث.
بعد أن تم إحياء فكرة الجيش الموازي من جديد خلال جلسات التنسيق والتحالف، كانت الاشتراطات حاضرة -هذه بتلك- فجرى التعبير عنها في مقترح دستور ما تسمى بلجنة تسييرية نقابة المحامين المحلولة، ثم في الاتفاق الإطاري، وسبقتها جميعا زيارات ورحلات مكوكية بين الخرطوم وأبو ظبي لشخصيات سياسية ورموز حزبية وناشطين من ذوي الحلاقيم المشروخة والطبول عالية الضجيج.
فمحاولة نفخ الروح في تلك الفكرة لصناعة جيش مواز عملية لا يمكن تمريرها بسهولة. فقد اجتهد تحالف الحرية والتغيير مع أصحابه وعرابهم في الخليج والغرب في استنباط شعارات وعبارات براقة عن “الجيش المهني والإصلاح العسكري”، خلافا للوثائق والنصوص المقترحة في الدستور التي تقر ضمنيا بفكرة الجيشين، فقد تم التفريق بين القوات المسلحة والقوات الأخرى وأُفرد لها وضع خاص، مع وضع العراقيل اللازمة وإثارة الصعوبات والتعقيدات عند الحديث عن الدمج.
ترافق ذلك مع حدوث ابتزاز سياسي لقيادة الجيش من الداخل والضغط الخارجي من الدول الغربية، بغية تقبل الجيش لأية تفاهمات مؤداها القبول بما تخرج به النقاشات الجارية وورشة الإصلاح الأمني والعسكري، واتضح من خلال هذه الورشة أن الحديث عن الجيش المهني الواحد ما هي إلا فقاعات ملونة وتعمية ساذجة، لأن نتاجات الورشة وحديثها عن ذلك تمخضت عن إحياء فكرة الجيش الموازي، فما الذي سيحدث خلال الأيام القادمة؟
الجزيرة