عن تحديات السودان التي تنوء بالعصبة أولى القوة!

عن تحديات السودان التي تنوء بالعصبة أولى القوة!
عمرو حمزاوي

لم يكن السودان منذ استقلاله فى خمسينيات القرن العشرين وطوال العقود الماضية ببعيد عن الحروب الأهلية، والمواجهات المسلحة، وإخفاقات حكامه فى تحقيق التنمية المستدامة وتحسين ظروف الناس المعيشية. واليوم، وبعد الفشل المتكرر لمساعى وقف إطلاق النار، يهدد الصراع المسلح الراهن بين الجيش الوطنى وميليشيات الدعم السريع بالقضاء على ما تبقى من أسس تماسك الدولة واستقرار المجتمع وبالزج بالجار الجنوبى إلى أتون أزمة طويلة المدى ذات تأثيرات خطيرة داخليا وإقليميا.

فوراء الصراع الذى تفجر فى مركز السلطة بالعاصمة الخرطوم بين الفريق البرهان والفريق حميدتى تكمن نواقص جوهرية أرهقت السودان بلدا وشعبا منذ استقلاله. ومن النواقص هذه اضطهاد المجموعات السكانية الإفريقية وغير المسلمة، وتهميش الأطراف الكثيرة التى فرض عليها الفقر ومحدودية الخدمات واقعا لا فكاك منه وعوقب سكانها بعنف حين طالبوا سلميا بحقوقهم، ونزوع مركز الخرطوم إلى رفع السلاح فى مواجهة حركات تمرد فى الجنوب ودارفور وكردفان والنيل الأزرق والنوبة ما كان لها أن تتشكل لو أن الحكومات المتعاقبة اعترفت بالتنوع العرقى والدينى واللغوى وامتنعت عن تركيز الثروة ووزعت بشىء من العدل عوائد الموارد الطبيعية الطائلة للبلد الغنى، وكذلك الحضور المزدوج لكيان عسكرى نظامى يمثله الجيش الوطنى ولميليشيات غير نظامية يديرها أمراء حرب وتتكالب من جهة على السيطرة السياسية ومن جهة أخرى على الاستحواذ على الموارد الاقتصادية والمالية.

وفى سياق الصراع الذى تفجر فى منتصف إبريل الماضى ونقل ويلات الدماء والدمار والنزوح إلى سكان مركز الخرطوم الذى أغرق حكامه الأطراف البعيدة فى حروب أهلية وفتتوا التماسك الإقليمى للسودان (استقلال جمهورية جنوب السودان فى ٢٠١١) ووظفوا الميليشيات فى حروبهم حتى توحشت (ميليشيات الجنجويد التى صارت قوات الدعم السريع نموذجا)، تتضح أيضا حدود التغيير السلمى فى بلدان تعانى من شيوع استخدام السلاح فى الصراعات المجتمعية والسياسية، ومن تفكك أسس الدولة الوطنية التى يصير مآلها الانهيار إن لم تبلور مواطنة جامعة عمادها الحقوق المتساوية وتقضى على ازدواجية حاملى السلاح النظاميين وغير النظاميين وأسس العيش المشترك إن أضحى الاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو اللغة أو لون البشرة واقعا يفرضه المركز على الأطراف.

وقد كانت عقود حكم الرئيس السابق عمر البشير وتحالفه غير المقدس مع حركات دينية راديكالية بين ١٩٨٩ــ٢٠١٩ هى الفترة الزمنية التى طغت بها جميع هذه الظواهر الكارثية على وجود السودان بلدا انفصل عنه جنوبه (٢٠١١) وشعبا قتل من مواطناته ومواطنيه ما يقرب من ٣٠٠ ألف فى مذابح دارفور (بين ٢٠٠٣ و٢٠٠٥).
وحين تدخل الجيش السودانى فى ٢٠١٩، على خلفية انتفاضة شعبية طالبت بعزل الرئيس البشير وإبعاد نخبته بامتداداتها الراديكالية والفاسدة عن السلطة ومن ثم تحرير شئون الحكم والاقتصاد والمال من قبضتها، وأقاله من منصبه كان على السودان بلدا وشعبا أن يواجه فوريا تحديات احتواء استخدام السلاح فى الأطراف، واستعادة ثقة الناس فى المواطنة الجامعة، والقضاء على ازدواجية الجيش والميليشيات، وإنجاز خطوات سريعة وفعالة لإنهاء اضطهاد المجموعات السكانية الإفريقية وغير المسلمة وتحقيق التوزيع العادل للثروة دون تهميش، والتوافق على اقتسام السلطة سلميا بين الجيش والقوى المدنية فى مرحلة انتقالية تنتهى بالتأسيس لحكم ديمقراطى.

• • •
كان فى مواجهة كل هذه التحديات المتداخلة والمتراكمة بين ٢٠١٩ و٢٠٢٣ ما تنوء بالعصبة من أولى الدفاع عن المواطنة الجامعة والعيش المشترك وتماسك الدولة الوطنية فى سودان سلمى ومتسامح على المدى القصير وتنموى وديمقراطى على المدى الطويل. توسطت الأمم المتحدة وتدخل الاتحاد الإفريقى وتكونت آلية ثلاثية من المنظمتين ومعهما الهيئة الدولية المعنية بالتنمية إيجاد، تشكلت لجنة رباعية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات، تواصلت مصر مع القوى العسكرية والمدنية الفاعلة فى مركز الخرطوم وفى الأطراف، عقدت جلسات تفاوض طويلة بين الجيش والدعم السريع وتحالف المدنيين فى قوى الحرية والتغيير والأحزاب والنقابات المؤثرة، وقعت اتفاقات إطارية متتالية حددت إجراءات وتوقيتات لإنهاء ازدواجية القوات النظامية وغير النظامية ولتطبيق ترتيبات الحكم الجديدة؛ ولم تتراجع لا التوترات بين المركز والأطراف ولا الخلافات السياسية ولا تغير تركيز السلطة والثروة والفساد أو توارى خطر اشتعال بعض الحروب الأهلية مجددا.
واليوم، وبسبب الصراع المسلح الراهن بين الجيش والدعم السريع، أضحى السودان بلدا وشعبا فى معية أخطار تشتد لجهة تفكك الدولة الوطنية وانهيار العيش المشترك وتجدد الحروب الأهلية وعمليات نزوح واسعة من مواطنات ومواطنين يبحثون عن ملاذات آمنة بعيدا عن الدماء والدمار. هذه سيناريوهات بالغة القتامة لجارنا الجنوبى، ولجواره المباشر الذى لا يقتصر علينا بل يمتد فى الشمال ليضم معنا ليبيا وفى الغرب ليشمل تشاد وإفريقيا الوسطى وإلى الجنوب حيث إريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ولجواره الإقليمى الأبعد فى شمال إفريقيا وحوض النيل وعبر البحر الأحمر باتجاه شبه الجزيرة العربية، وللسلم والأمن العالميين.
وللحد من احتمالية تحقق هذه السيناريوهات، وفى مواجهة تورط بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين فى حسابات مصالح تقامر على وحدة واستقرار السودان ولا تمانع فى تحوله إلى سوريا أو ليبيا جديدة، يتعين على الحلفاء والأصدقاء القريبين والبعيدين لهذا البلد العربى والإفريقى الكبير، أولا، الضغط الإيجابى على طرفى الصراع، الجيش والدعم السريع، من أجل وقف حقيقى لإطلاق النار والعودة الفورية إلى مفاوضات تستهدف إحياء وتنفيذ اتفاقات دمج القوات غير النظامية فى قوات الجيش الوطنى النظامية وإنهاء ازدواجية حاملى السلاح. وتستطيع المنظمات المندرجة فى الآلية الثلاثية، الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى وهيئة إيجاد، تسهيل وتحفيز وإدارة التفاوض بين ممثلى الفريق البرهان والفريق حميدتى وترجمة ضغط الحلفاء والأصدقاء إلى ضمانات ترفع من احتمالية الالتزام ببنود الاتفاقات.

ثانيا، يحتاج السودان بلدا وشعبا إلى إقرار منع دستورى وتجريم قانونى لاستخدام السلاح لأغراض سياسية وفى الصراعات المجتمعية، وإلى اعتماد نصوص دستورية وقانونية صريحة تحمى الأطراف والمجموعات السكانية التى طال تهميشها من العنف والاضطهاد والظلم فيما خص توزيع السلطة والثروة. ففى الاقتراب من هذين الأمر، شأنهما شأن دمج القوات غير النظامية فى الجيش، مرتكز جوهرى للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية واحتواء خطر تفككها. وفى الاقتراب منهما، أيضا، إنهاء للإفلات من العقاب على استخدام السلاح فى تكالب السياسة وصراعات المجتمع.
ثالثا، ترتبط خطوة إضافية هامة فى مسار إنقاذ السودان بتشجيع القوى العسكرية والمدنية على استئناف مفاوضات البناء الجديد للسلطات التشريعية والتنفيذية ومؤسسات إنفاذ القانون بعد عزل الرئيس السابق البشير وفى ظل مطالب بالإصلاح الدستورى والسياسى واقتسام السلطة والثروة بين المركز والأطراف تكررت خلال السنوات الممتدة بين ٢٠١٩ و٢٠٢٣. اليوم، على وقع دانات المدافع وأزيز الطائرات، تتوارى مطالب الإصلاح والتغيير السلمى ويحل محلها الخوف من اتساع رقعة الدماء والدمار والنزوح والبحث عن ملاذات آمنة. غير أن التوارى هذا يظل مؤقتا، مثلما تظل مطالب ما بعد عزل الرئيس السابق عادلة وضرورية لإبعاد السودان عن أخطار التفكك والانهيار والعنف والحيلولة دون استنساخ المصائر الصعبة التى تعانى منها بلدان كسوريا وليبيا على ضفاف النيل.

عمرو حمزاوي:
أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.