إذا كانت الحاجة أم الاختراع فإن الغلاء هو أبو الاستغناء ومصدر ترتيب الأولويات وسيد ترشيد النفقات، ويبدو أن المصريين اكتشفوا الطريقة المثلى للتكيف مع الغلاء وترويض التضخم المفترس، وعلى رغم أن أسلوب الشراء بالتقسيط أو بالقطعة ليس في قاموس السواد الأعظم من المصريين، فإن بعضهم تفاعل واستحسن مبادرة لشراء اللحوم بالقطعة، وليس بالكيلوغرام.
البداية كانت من سوهاج، إحدى محافظات الوجه القبلي، عندما ابتكر أحد الجزارين (بائع لحوم) أسلوباً جديداً لتسويق وبيع بضاعته الراكدة بعد أن عزف المستهلكين من أبناء بلدته عن الشراء لارتفاع أسعار اللحوم بشكل جنوني في مصر.
وأعلن محمد قدري (جزار) عن مبادرته الجديدة التي تدرج نظاماً جديداً للبيع، ألا وهو البيع بالقطعة، إذ يقول إن “كيلو اللحم في سوهاج وصل سعره إلى 300 جنيه (9.72 دولار)”. ويضيف أن “هذا السعر أصبح لا يتناسب مع دخول ورواتب أبناء محافظته بعد وتيرة ارتفاع الأسعار الجنونية أخيراً”.
ويشير جزار سوهاج إلى أنه نتيجة التحول في مستويات أسعار اللحوم أطلق مبادرته الجديدة، وهو أن يستبدل نظام البيع بالقطعة بدلاً من الكيلوغرام بعد عزوف شريحة كبيرة عن الشراء”.
القطعة بـ0.87 دولار
ويوضح محمد قدري على إحدى الفضائيات أنه “حدد سعراً لوزن القطع، فمثلاً القطعة التي وزنها 100 غرام تباع بسعر 27 جنيهاً (0.87 دولار)، بينما القطعة التي تزن 60 غراماً يصل سعرها إلى 20 جنيهاً (0.64 دولار) فحسب”، لافتاً إلى أن “المبادرة جذبت الزبائن من جديد للشراء بتلك الطريقة، إذ إن هناك إقبالاً كبيراً من المستهلكين من أبناء المحافظة”، مؤكداً أن “مبادرة بيع اللحمة بالقطعة أسهمت بشكل كبير في زيادة الإقبال وزيادة المبيعات داخل المحل، وهناك زبائن كثيرة تدخل لتشتري ثلاث قطع فحسب ودون أي حرج، وبخاصة بعد إطلاق المبادرة”.
صدى البيع بالقطعة في سوهاج وصل إلى المحافظة المجاورة لها أسيوط، إذ أطلق أحد جزاري المحافظة أيضاً المبادرة نفسها ببيع اللحمة بالقطعة، بدلاً من الكيلو، وذلك تيسيراً على المواطنين لشراء اللحمة.
ويقول أيمن الجزار إنه “يعمل في الجزارة منذ سنوات طويلة، ولديه محلات عدة، وأطلق مبادرة بيع اللحمة بالقطعة بدءاً من يوم الخميس الموافق 25 من شهر مايو (أيار) الجاري، مستهدفاً التيسير على المواطنين لشراء اللحمة من جانب، ورفع مستوى مبيعاته إلى ما كانت عليه قبل فترة الغلاء الفاحش”، مضيفاً أن سعر القطعة التي تزن 80 غراماً 25 جنيهاً (0.81 دولار).
إقبال واسع بالمحافظات
ويشير جزار سوهاج إلى أن مبادرته شهدت إقبالاً واسعاً من المواطنين على الشراء منذ الساعات الأولى من انطلاقها، بل شهدت ترحيباً كبيراً من رواد مواقع التواصل الاجتماعي عقب الإعلان عنها”. ويلفت إلى أن “سعر كيلو اللحوم بمحافظته ارتفع إلى 290 جنيهاً (9.39 دولار).
الدعوات الفردية من الجزارين لاقت استحساناً من قبل الجمعيات الأهلية والشعبية، إذ أكد رئيس جمعية (مواطنون ضد الغلاء) محمود العسقلاني، أن “ثقافة المواطنين يجب تغييرها في الشراء والاستهلاك خلال الفترة المقبلة”، مضيفاً أن “المستهلك في أوروبا يمكنه شراء قطعة من اللحوم أو الفاكهة أو الخضراوات”، مستدركاً “لكن في مصر ما زال السواد الأعظم متمسك بالشراء بالكيلوغرام”.
وأشار العسقلاني إلى أن جمعيته أطلقت هي الأخرى مبادرة لبيع اللحوم بالتقسيط (الشراء والدفع على دفعات) نظراً إلى ارتفاع أسعار اللحوم في الأسواق علاوة على ارتفاع أسعار الماشية الحية مع ارتفاع أسعار الأعلاف محلياً، لافتاً إلى أن “نسبة الاكتفاء الذاتي من اللحوم في مصر تتجاوز 60 في المئة، بينما تستورد الدولة الفجوة الاستهلاكية بنحو 40 في المئة من خارج البلاد محملة قطعاً بموجات التضخم العالمية، وكذالك تراجع قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي بعد أن قفز الأخير مقابل الأول بأكثر من 100 في المئة منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في مارس (آذار) 2022”.
تعميم التجربة
وحول تعميم التجربة بشكل رسمي، أكد نائب رئيس شعبة القصابين بغرفة الجيزة التجارية بالاتحاد العام للغرف التجارية سعيد زغلول، أن “البيع بالقطعة في المناطق الشعبية متاح من الأساس، إذ يمكن للمستهلك أن يشتري 500 غرام أو 250 غرام من اللحوم من محلات الجزارة المنتشرة في مصر”، موضحاً أن “حالة الركود الإجباري في الشراء والبيع أجبرت الجزارين على المرونة في بيع اللحوم دون وضع حد معين للوزن كما كان يحدث في السنوات السابقة”، موضحاً أن “بعض الجزارين، وليس كلهم، كانوا يرفضون البيع بأقل من كيلوغرام”، مستدركاً أن “الوضع الاقتصادي وحالة الغلاء الفاحش دفعا الطرفين، سواء البائع أو المشتري، إلى التساهل والمرونة”.
أحد أسباب الأزمة
وحول أزمة أسعار اللحوم، ربط نائب رئيس شعبة القصابين بغرفة الجيزة التجارية بالاتحاد العام للغرف التجارية موجة ارتفاع الأسعار بثلاثة عوامل، قائلاً “العامل الأساسي هو تقلص كميات اللحوم التي تستوردها وزارة الزراعة المصرية نتيجة شح العملة مما قلص من حجم المعروض فارتفعت الأسعار”، مضيفاً “أما السبب الثاني فيرجع إلى سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي على مدار العام، إذ إن نسبة التراجع في قيمة العملة المحلية يعادل نسبة الارتفاع في أسعار اللحوم تقريباً. وحول العامل الأخير قال زغلول إنه يعود إلى ارتفاع أسعار الأعلاف بمقدار 200 في المئة في غضون عام، هذا إلى جانب ارتفاع كلفة الأدوية لعلاج الماشية”.
وبالنسبة لمعدلات الأسعار حالياً أكد زغلول على أن “أسعار اللحوم مستقرة منذ شهر تقريباً نتيجة حالة الركود الإجباري عند المواطنين، إذ إن المستهلك عزف عن الشراء نتيجة ارتفاع الأسعار تزامناً مع تراجع مستوى الدخول بالنسبة إلى الشريحة الأكبر بين المصريين”، مشيراً إلى أن الأسعار الحالية ستظل ثابتة حتى عيد الأضحى المقبل في حالة بقاء حالة الركود الإجباري، مشيراً إلى أن الأسعار قد تتحرك صعوداً مع تغير حالة الركود وعودة المستهلك إلى الشراء مجدداً”. وطالب نائب رئيس شعبة القصابين بغرفة الجيزة التجارية الحكومة بالتدخل السريع واستيراد أكبر كمية ممكنة من اللحوم الحية والمجمدة قبل استفحال الأسعار مع قرب حلول أيام عيد الأضحى المقبل، إذ يزداد حجم الاستهلاك مقارنة بباقي أيام السنة، كما طالب أن تدعم الدولة صغار المربين للماشية، إذ يمثلون أكثر من نصف قوة الإنتاج الحيواني في مصر.
الاستيراد والتسهيلات
في المقابل أكد رئيس قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة بوزارة الزراعة طارق سليمان، على موافقة وزارته على استيراد 170 ألف رأس ماشية حتى عيد الأضحى، مشيراً إلى أن “الكميات التي سيتم استيرادها ستلبي حاجة الأسواق في أيام العيد”.
وأضاف سليمان أنه “ستطرح الكميات المقرر استيرادها في مختلف المنافذ الحكومية على مستوى الجمهورية”، مؤكداً أن تلك الكميات ستطرح للبيع بأسعار تقل عن أسعار السوق بنحو 30 في المئة”، مشدداً “لن يكون هناك نقص في اللحوم”، لافتاً إلى أن “دولاً عدة تعاني نقص المواد السلعية المختلفة”
وحول أزمات صغار المربين قال رئيس قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة بوزارة الزراعة، إن “صغار المربين يمثلون أكثر من 60 في المئة من إنتاجنا الحيواني”، مضيفاً أنهم “في بؤرة اهتمام القيادة السياسية”، مؤكداً أنه “سيتم إقراض صغار المربين قروضاً بفائدة 5 في المئة متناقصة لتنمية مشروعاتهم”.
وعلى رغم تراجع معدل التضخم السنوي في مصر للمرة الأولى منذ 10 أشهر ليسجل 31.5 في المئة في أبريل (نيسان) الماضي مقابل 33.9 في المئة في مارس السابق له، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلا أن القراءة الأخيرة ظلت الأعلى منذ ما يزيد على ست سنوات.
إلى ذلك عزز التضخم المستشري في البلاد لأسباب تتعلق بدورة التشديد النقدي التي مارستها البنوك المركزية نهاية 2021 والحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022، من إقبال قطاعات واسعة من المصريين على شراء السلع والمنتجات والخدمات بنظام تجزئة القيمة أو “التقسيط”، وهو إقبال غذى نشاط التمويل الاستهلاكي بقوة.
أسعار اللحوم
وتتباين أسعار اللحوم في مصر وفقاً المناطق الحضرية أو الريفية والمناطق الشعبية أو الراقية، وكذلك بين السلاسل الغذائية الكبرى أو في محلات الجزارة بالأسواق في المحافظات، إذ يتراوح كيلو اللحم البقري بين 285 جنيهاً (9.25 دولار) إلى 395 جنيهاً (12.79 دولار) بحسب المناطق الجغرافية، أما لحم الضأن فيباع بمستويات الأسعار نفسها، بينما اللحم الجملي يبدأ سعر الكيلو من 250 جنيهاً (8 دولارات) في مناطق شعبية ويصل إلى 350 جنيهاً (11.34 دولار) في مناطق أخرى
وعن أسعار اللحوم الأخرى في السلاسل الغذائية الكبرى فيبدأ سعر كيلو اللحم البقري المجمد من 290 جنيهاً (9.39 دولار) إلى 395 جنيهاً، في حين يتراوح سعر كيلو اللحم الضأن بين 250 جنيهاً ويصل إلى 400 جنيهاً (12.96 دولار).
تباين بين المستهلكين
إذا كان الركود في الأسواق دفع الجزارين إلى اتباع أسلوب جديد لبيع اللحوم لزيادة المبيعات، فماذا عن المستهلك نفسه؟
فعلى أرض الواقع أبدت هدى محمد (ربة منزل) سعادة بالغة بالمرونة في بيع اللحوم وعدم التقييد بكمية محددة، إذ تقول إن “أسرتها مكونة من فردين اثنين فحسب، هي وزوجها”. وتضيف “هذا النظام يناسبني تماماً، فبدلاً من الاضطرار إلى شراء كيلو أو حتى نصف الكيلو بمبلغ يصل إلى 300 جنيه فيكفيني قطعتين فحسب، أو ثلاث بـ100 جنيه”.
أما هنية سعيد فلم تحرك المبادرة لها ساكناً، فهي تعتبر أسلوب البيع الجديد لا يقدم شيئاً أو يؤخر، إذ تقول “لدى أسرة مكونة من سبعة أفراد، لذا أضطر إلى شراء كيلو ونصف الكيلو من اللحوم مرة في الأسبوع” موضحة أن “لو اشتريت 7 أو 8 قطع على اعتبار أن الفرد نصيبه قطعة واحدة في الأقل فيصل وزنها إلى ما يعادل الكيلو، لذلك لن تجدي معي تلك المبادرة”.