تراجع أخبار السودان عن شاشات القنوات العربية، بعد أن استحوذت الحرب على غزة اهتمام العالم، لا يعني أن الأزمة السودانية انتهت، على العكس من ذلك، تصاعدت الاشتباكات وارتكبت جرائم كثيرة، وما زال السودان مهددا وجودياً بصورة تتجاوز في أثرها على الدولة السودانية، ودول الجوار السابقة التي حدثت مع انفصال الجنوب. التأمل في خريطة التمركز يؤدي إلى فكرة التقسيم بوصفها المخرج الممكن، وعملياً يوجد شرق السودان الهادئ نسبياً، مقابل القلب النيلي المضطرب في الصراع على الخرطوم، بالإضافة إلى دارفور التي تشكل الحديقة الخلفية لوجود قوات الدعم السريع، وحقل الألغام في الوقت ذاته.
ويظهر السؤال الكبير والجوهري والمخيف، هل تستحق تجربة الجنجويد التي تطورت إلى قوات الدعم السريع، أن تحصل على دولة جديدة؟ هل تكون الميليشيا هي المستقبل في المنطقة العربية، وهل يعني الفشل في بناء تجربة حكم مدني حقيقي يقوم على سيادة القانون والمساواة أمامه والحريات، ويسعى إلى التنمية، الاستلقاء في أحضان الفوضى ومنطق القوة وفرض الأمر الواقع؟
مع الميليشيا لا تعود الدولة فكرة ممكنة، فهي غنيمة وحصة من الكعكة، والإنسان في داخل هذه الدولة مستلب من اللحظة الأولى، وليس مشاركاً في مشروعها
ما هو شكل الدولة التي يمكن أن تنتجها قوات الدعم السريع، التي مارست عمليات النهب والسلب في الخرطوم، وصدرت بحقها تقارير تتعلق باغتصاب العشرات من النساء في دارفور، وعملت على تهجير مئات الآلاف من بيوتهم وأراضيهم؟ وما هو أساس شرعيتها وما الذي سيتعلمه أطفال الدولة، التي ربما تظهر من الصراع عن تاريخها، وما هي الأسطورة التي سيتغذون عليها؟ التفكك في السودان يمكن أن يدفع لإنهاء خطوات التردد في تفكك آخر في ليبيا واليمن، يقوم على أساس الصراع والتنازع، والشعوب لا تمتلك داخلها مشروعها الخاص، ولا تبدو مؤهلة لذلك بوصفها نتاجاً لمراحل سابقة جعلتها تتخذ مواقف سلبية تجاه شؤونها الداخلية، وفي حالة لم يطلب منها أن تلتف حول الزعيم الملهم والقائد الضرورة، كان سقف منجزها هو الصمت والانزواء.
وبعد عقود من الاضطراب في بلد بحجم وأهمية السودان، تصبح مكافأة شخص مثل محمد حمدان الشهير بحميدتي بدولة جديدة، أمراً ممكناً ومحتملاً وحتى مرتقباً، وهذه قصة من العصور الوسطى تجري أحداثها ووقائعها تحت سمع العالم وبصره، وبتوثيق كامل بالصوت والصورة. الجيوش العربية لم تكن يوماً محصنة من التفكك العقائدي، الذي جعلها تتورط في لعبة السياسة وتتخلى عن تقاليدها، وتصبح ملحقة بلعبة المال وقريبة من مائدة الثروة، والخطوة الأولى لشرعنة حميدتي أتت عندما منحه الجيش رتبة الفريق أول، مع أنه لم يدخل الكلية العسكرية ولم يتخرج من أي مدرسة أخرى من الأساس، رتبة لم يتحصل عليها سعد الدين الشاذلي بطل الانتصار العربي في أكتوبر 1973، وهذه الخطوة مناقضة لفكرة المؤسسة التي يجب أن تكون نواة لوجود الدولة. الحرب في السودان تمثل لعبة صفرية، ولا يمكن إعادة إنتاج قوات الدعم السريع بأي صورة، ولذلك تقاتل وظهرها إلى الحائط، ولا تتوقف عند التفكير في أية عوامل إنسانية، ولا تبدو قيادتها التي تحاول أن تقدم نفسها عالمياً، قادرة على السيطرة على جرائم عناصرها وحالة العصاب الجمعي التي تعيشها، وهذه القوات تعلمت الحصول على المغفرة وتصفير عداد خطاياها بعد جرائمها في أزمة دارفور، التي قدمتها إلى المشهد لتكون تعبيراً عن فشل نظام عمر البشير الذريع في المحافظة على مكانة السودان، حيث قضمت رئاسته وفي كل محطة وفرصة من رصيد الدولة السودانية من أجل بقائه واستمراره. يظهر الجيش السوداني عاجزاً عن القضاء على الميليشيا التي لا يمكن استعادتها لتكون شريكاً في الدولة والحكم، والتخوف من سودان مقسم عملياً إلى دول جديدة، سيظهر بوصفه الحل للتخلص من الأزمة القائمة وتكلفتها العالية، وسيجد العالم نفسه، خاصة المنطقة العربية، أمام مشروع مشوه ومخيف، لكن لا يوجد ما يستبعد القبول به وتطبيعه مع الوقت.
مع الميليشيا لا تعود الدولة فكرة ممكنة، فهي غنيمة وحصة من الكعكة، والإنسان في داخل هذه الدولة مستلب من اللحظة الأولى، ليس مشاركاً في مشروعها، وعليه أن يعمل ويكدح من أجل الميليشيا، التي خلافاً للجيوش النظامية، غير مضطرة لأي ادعاءات، ولا تشعر بأنها منتج للدولة لأنها في حالة الدعم السريع نتاج للميليشيا. لم يكن السودان بامتداده أوسع وأكبر من أن يتمكن جيل الاستقلال من قيادته، لكن الحكم العسكري كان قاصراً عن ذلك، وحكم الميليشيا بالتأكيد أبعد ما يكون عن إدارة أي دولة، والكارثي والذي يستدعي مراجعة واسعة هو أن الميليشيا تصبح مع الوقت بديلاً مطروحاً للدولة، لتتزاحم الأخبار في العالم بأسماء بلاك ووتر وفاغنر، وبمشروعات تجري في الخفاء لتقديم وجوه جديدة لحروب وصراعات محتملة، غير ضرورية إلا للتغطية على فشل مقيم في التجاوب مع بناء تنمية حقيقية، وقفت في طريقها فئات استفادت من الوضع القائم وسيطرت على الدولة التقليدية، ولا يمكن أن تتنازل عن مكتسباتها طواعية، وعندما لا يتمكن القانون من ممارسة دوره وتحقيق العادل والمنصف للناس، فإن الفوضى تتقدم ليصبح الخوف هو الحاكم المطلق عملياً، خوف يشمل الجميع ويسيطر عليهم ويدفعهم لاستخراج حيلهم الدفاعية، ولو كانت الوحوش التي عملوا على تربيتها طويلاً غير مدركين أنها ستلتهمهم وتبدأ في حلقة جديدة في دائرة مفرغة تعبر عن استحكام العجز.
القدس العربي