جريدة لندنية : السودان والأمم المتحدة بين الانسحاب والتصعيد

وأخيراً صوّت مجلس الأمن الدولي لإنهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان المعروفة بـ»UNITAMS»، تلك البعثة التي جاءت بطلب من الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك وتكونت 2020 لتقديم الدعم والمساعدة في عملية التحول الديمقراطي. وجاء إنهاء مهام البعثة الأممية على خلفية القرار رقم (2715) الذي أنهى بموجبه عمليات البعثة الأممية في البلد المنكوب بتصويت أربع عشرة دولة وامتناع روسيا، والغريب تصريح مندوبة المملكة المتحدة وهي، إحدى الدول الدائمة العضوية بعدم ترحيبها بالقرار في الوقت الراهن! وقد تكرر طلب الحكومة السودانية العسكرية، وهو ما أشار إليه بيان مجلس الأمن الدولي، الذي تقرر فيه إنهاء مهمة البعثة الأممية. وبهذا يكون الستار قد أسدل على أكثر البعثات الأممية إثارة للجدل في العلاقة بين السودان والمنظمة الدولية، وقد يفتح الباب أمام احتمالات تزايد الضغط الدولي بطرق أخرى.

ولكن ماذا يعني إنهاء البعثة في هذه الظروف، التي يشهدها السودان من حرب شبه أهلية على مدى ثمانية أشهر منذ منتصف أبريل الماضي؟ وهل يعد هذه الإجراء تحولاً في سير إجراءات عمل بعثات المنظمة الدولية تجاه البلدان التي تعاني من ظروف استثنائية؟ إن حفظ السلم والأمن الدوليين، في سياق المبادئ المؤسسة للمنظمة الدولية ومجلس أمنها، على ما يوجه لها من انتقاد بهيمنة الدول على قراراتها، إلا أن انضمام دول العالم ومن بينها السودان يلزمها قانوناً الالتزام بمقرراتها مهما تعارضت مع توجهات الأنظمة التي تدعي السيادة الوطنية، خاصة غير المنتخبة، أو غير الشرعية كالحكومات الانقلابية. والمعضلة الأخرى حسب وجهة نظر المنتقدين، أن الأمم المتحدة التي يجب أن تعمل كمؤسسة تعنى بالتعامل مع التهديدات الأمنية الخطيرة، إذ تخول المادة 51 استخدام القوة لا بد أن يتم من خلال مجلس الأمن، إلا أن مجلس الأمن الذي تعكس عضويته التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، صمم ليصبح مؤسسة ضعيفة، فحق الفيتو المستخدم من جانب الأعضاء الدائمين يضمن لهم أن المجلس لن يعمل بشكل يتعارض ومصالحهم الوطنية.

دائماً ما كانت الضغوط الدولية وليس الحاجة المحلية الملحة ما يسوغ وجود البعثات الأممية على الأراضي السودانية

واجهت البعثة الأممية (اليونيتامس) في السودان سيلاً من الانتقادات، ورئيسها السابق فولكر بيرتس ممثل الأمين العام الخاص بالتدخل الغليظ في الشأن الداخلي السوداني، فقد كانت محل صراع عنيف بين المكونات السودانية السياسية، وقد طالته الاتهامات بتجاوز مهامه، بل طالب رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان من الأمم المتحدة باعتباره شخصا غير مرغوب فيه. وبينما كان موقف القوى السياسية المناوئة للعسكر ومن خلفهم تحالف الإسلاميين ترى فيها ضامنا دولياً للفترة الديمقراطية، واستمر هذا الموقف إلى ما بعد اندلاع الحرب. ولم تكن إنجازاتها قياساً على ما أعلن من بنودها التي كانت ستعمل على تفنيدها، بما يشمل دعم الانتقال والمساعدة في حماية وضع الدستور، وبناء السلام والتنسيق في عمليات الإغاثة وغيرها من مهام سياسية واجتماعية مجدولة في تفويضها، بما فيها الاعتبارات الجندرية. وبما أنها بعثة تتصل مهامها بالقضايا السياسية، كان لابد أن تتأثر بالمناخ السياسي الذي أعقب سقوط حكومة البشير 2019، ومن ثم انهيار الدولة السودانية بفعل الحرب لاحقا. ولم تفلح عملياً من تحقيق أيٍ من مهامها بفعل الاضطراب السياسي السائد، أو صعوبة المهام التفويضية نفسها؛ وحافظت على التجديد الإجرائي لتمديد مهامها لمرتين إلى أن أنهيت مهامها كلية. هذا التنازع بين طرفي الأزمة حول البعثة ودورها، عقّد مهمتها وقذف بها في أتون الصراع السياسي الداخلي، وأصبحت جزءا منه وكان حضورها الكثيف في الشأن السوداني الضلع الثالث في الأزمة السودانية، ممثلاً في شخص ممثلها.

وعلى مرّ ما عرفه السودان من تدخل المنظمات الدولية والإنسانية في كوارثه الطبيعية من مجاعات وحروب تكاد لا تنتهي، كان تعامل الحكومات السودانية والعسكرية منها يتأرجح بين القبول والرفض المطلق بذريعة السيادة الوطنية. وشهد إثر تفجر الصراع في دارفور وجود أكبر قوة مشتركة لحفظ السلام في العالم، هي بعثة اليوناميد، ودائماً ما كانت الضغوط الدولية وليس الحاجة المحلية الملحة ما يسوغ وجود البعثات الأممية على الأراضي السودانية. وفي هذا الظرف الاستثنائي في حرب الخرطوم، يعد انتهاء وليس تعليق إحدى بعثاتها العاملة على حفظ السلام ودعم المسار الديمقراطي قد استقبله أحد طرفي الصراع كانتصار دبلوماسي طالما سعت إلى تنفيذه، والفريق الآخر من واقع تصريحات قادته قد يوسع هذا الإجراء من دائرة الحرب القائمة. مع تعثر المفاوضات بين طرفي الصراع وانهيار الوضع الداخلي، بسبب فظاعات الحرب وانتقالها إلى مستويات عسكرية معقدة، تبدو بحاجة إلى قوات حفظ سلام تصحبها قوة (الفصل السابع) وليس بعثة بمهام سياسية. في ظل حرب السودان وما أحدثته وتحدثه من تحول في موقع السودان الإقليمي والدولي لم يكن مؤملاً من أي بعثة أممية أن تفرض واقعاً مرغوباً فيه، بما يتجاوز قدراتها. فإذا فهم الساسة السودانيون بين من يعولون على البعد الخارجي في الحل، وأولئك الذين يتمسكون بالحل الداخلي على ما يخفون من أجندة، فإن الواقع الداخلي يستدعي حلاً ما لوقف نزيف الحرب بإرادة وطنية تجمع ما بعثرته الحرب من جهود وطنية. والشاهد أن دور البعثة الأممية له رمزيته في السياق الدولي للأزمة السودانية، وإن يكن الشأن السوداني يصعب تفسيره لعدد ما يحدث من تدخلات دولية وإقليمية وارتباطات تتقاطع أيديولوجيا وجيوبولتيكيا مع محاور عدة تعمل مجتمعة على تعميق الأزمة السودانية، التي زادت معاناة ضحاياها من غير اكتراث لأي من أطراف الصراع.

الحضور الأممي سيكون قائماً في وضع السودان، فقد عين الأمين العام للأمم المتحدة الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة مبعوثاً شخصيا له في الشأن السوداني، والتطور المتوقع من جانب الأمم المتحدة باتساع دائرة التعامل مع الأزمة السودانية بتصعيد ملفاتها على بنود الفصل السابع بكل تداعياته التي تشمل التدخل المباشر واستخدام القوة، وما يستتبع ذلك من تحركات لجان التقصي في جرائم الحرب وغيرها من مواجهات لا سبيل لتجنبها إذا استمرت الحرب بوتيرتها المتصاعدة. ولم يزل مرتكبو جرائمها مطلقي السراح وتمثل هذه الخروقات انتهاكات قانونية فادحة، وعلى القيادات السودانية وأطرافها العسكرية والمدنية الاستعداد لفصل جديد من المواجهة مع المنظمات الدولية، ربما بشكل لا مثيل له وقد تكون مواجهة فعلية وليست شكلية أو دبلوماسية.

صحيفة القدس العربي


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.