توزعوا على 729 مركز إيواء فيما نزحت أعداد أخرى إلى دول الجوار..نازحو حرب الخرطوم… معاناة مستمرة وحلم بالعودة

منذ إطلاق الرصاصة الأولى بين الجيش و”قوات الدعم السريع” في الخرطوم منتصف أبريل (نيسان) الماضي شهد السودان أكبر أزمة نزوح في العالم، بحسب تقارير الأمم المتحدة، خصوصاً نحو الولايات التي لم تتأثر بالحرب والبالغ عددها 18.

توزع النازحون على 729 مركز إيواء أقيمت لاستيعابهم بمدن تلك الولايات، منها 130 في مدن عطبرة والدامر وبربر بولاية نهر النيل، و30 مركزاً بالولاية الشمالية، و150 في مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر، و140 بمدينتي كوستي وربك بولاية النيل الأبيض، و34 بولاية القضارف، و45 بولاية كسلا، و200 بولاية الجزيرة.

في وقت نزحت أعداد أخرى لدول الجوار مثل إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى ومصر التي سجلت النسبة الأعلى لاستضافة النازحين السودانيين. ومع احتدام المعارك واستمرارية أمدها زادت معاناة النازحين الإنسانية والصحية بعد نفاد المخزون الغذائي والأموال التي كانوا يوفرونها، في ظل توقف صرف المعاشات للعاملين بالدولة، مما أدى إلى تدهور أوضاعهم المعيشية.

إلى جانب سوء الوضع الاقتصادي بسبب تفشي العطالة، إذ بات الحصول على الأكل والشرب أمراً صعباً والفقر والجوع أكبر الكوارث التي تهدد حياة النازحين، مما أدى إلى تفشي الأمراض والأوبئة المعدية، مثل الكوليرا وحمى الضنك وأمراض سوء التغذية الحادة والإسهالات المائية بخاصة وسط الأطفال.

كما ظهرت الإصابة بمرض الملاريا بسبب انتشار البعوض خلال موسم الخريف، إذ أودت هذه الأمراض الفتاكة بحياة آلاف النازحين، فضلاً عن عدم توفر الأدوية المنقذة للحياة.

ظروف قاسية

هذه الظروف القاسية التي فرضتها الحرب وأجبرت المواطنين على التعايش معها خلفت أوضاعاً مأسوية وسط النازحين، وبحسب المتابعين والمتخصصين فإن واقع الحال في الولايات التي تأثرت بالحرب أو البعيدة من الأحداث يؤكد ضرورة التدخل على مستوى الدولة لاحتواء هذه الأزمة، لا سيما أن الجهود المبذولة تنحصر فقط في دعم المنظمات الدولية والناشطين في حقوق الإنسان، وبعض الجمعيات الطوعية التي مهما عظمت فإنها لا تصل إلى دعم الدولة.

يقول النازح صلاح عبدالرحمن الذي يقيم في مركز إيواء بولاية النيل الأبيض إن “أوضاع النازحين المعيشية بمعسكرات الإيواء متردية للغاية، فضلاً عن توقف الدعم الحكومي وعدم وجود ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية، ومعظم ما يصل المركز يأتي من طريق الجهود الشعبية أو فاعلي الخير، وهي عبارة عن أشياء متواضعة لا تلبي المتطلبات اليومية، نسبة لاكتظاظ المراكز بالنازحين بخاصة من ولايات غرب السودان للتقارب الجغرافي”.

ويضيف “يحاول النازحون قدر الإمكان التغلب على الأزمات التي تواجههم على رغم الآثار النفسية التي نتجت من تفاقم معاناتهم، فبدأ الجميع في مزاولة أنشطة تعينهم على الإيفاء ببعض المتطلبات الضرورية، في وقت تتفاقم معاناتهم جراء التلوث البيئي وانتشار كثيف للذباب بخاصة في الأسواق وأماكن بيع الخضر والفاكهة والمطاعم والمخابز، وبات الحصول على الأطعمة الصحية أمراً شاقاً، مما أدى إلى انتشار الأمراض مثل الكوليرا التي تسببت في الإسهالات المائية، فضلاً عن توالد البعوض الذي يؤدي إلى الإصابة بالملاريا، كما شهدت ولاية النيل الأبيض إصابات واسعة للأطفال بالحصبة، إضافة إلى عدم توفر اللقاحات التي كانت في يوم من الأيام وقبل تدهور المنظومة الصحية متوفرة ومنتظمة، وتقوم فرقها بطرق باب كل منزل بولايات السودان المختلفة حرصاً على ضرورة أخذ الجرعات الوقائية”.

ويتابع عبدالرحمن “تتميز ولاية النيل الأبيض بسهولة كلفة المعيشة التي في متناول اليد، لذلك كانت قبلة للفارين من حرب الخرطوم، بخاصة التجار مما خلق نوعاً من التكدس، كذلك تشتهر بالانتعاش التجاري خصوصاً مدينتي كوستي وربك، إلى جانب تميزها بروابط اجتماعية قوية، وظهر ذلك من خلال الجهود الشعبية بمعسكرات الإيواء، لكن يجب أن يلتفت القيمون على الولاية للجانب الصحي حتى يتم القضاء على الأمراض التي تحاصر سكانها”.

صراعات وتجريم

في سياق متصل، يوضح مدير مركز إيواء مدرسة الشرقية بولاية الجزيرة والمتخصص في التنمية البشرية عبدالفتاح الفرنساوي أن “جميع معسكرات الإيواء بولاية الجزيرة البالغ عددها 200 قائمة على الجهد الشعبي، إذ يشرف عليها شباب ناشطون في العمل الطوعي، وكان لهم دور بارز في فتح المدارس وإقامة المعسكرات بعد النزوح الكثيف الذي شهدته الولاية، ويتوزع هؤلاء النازحون على ثمانية أماكن جهزت لاستقبال الفارين من حرب الخرطوم بعيداً من التدخلات الحكومية، لكن حدث خلاف بعد إشراف مفوضية العون الإنساني التابعة للولاية على 15 مركزاً وتخصيص كل ما يصل من مساعدات دولية لتلك المراكز، والإحجام عن تقديم أي مساعدات للمعسكرات التي تقوم بالجهد الشعبي، مما أدى إلى انقسام وخلق نوع من المشاجرات بين الجهات الأمنية والمشرفين المتطوعين لخدمة النازحين والمعروف أن معظمهم من لجان المقاومة”.

ويرى أن “هذا الانقسام أدى إلى إفراز مشكلات عدة أبرزها محاربة الطاقات الشبابية وتجريم لجان المقاومة بأنها تتبع الدعم السريع، إضافة إلى عدم وجود لوائح وقوانين تنظم عمل الدور، فضلاً عن دخول النازحين والفرق الطبية والجهات الأمنية في هذا الصراع والاعتداء بالضرب على المتطوعين، مما أدى إلى انسحابهم من تقديم الخدمات للنازحين بمعسكرات الولاية”.

ويلفت الفرنساوي إلى أن ظروف النازحين القاسية لا تحتمل الخلافات، ويجب أن يكون الهم مكرساً باتجاه العمل من أجل تخفيف محنتهم، بسبب تشريدهم من منازلهم بعد أن كانوا ينعمون بالاستقرار والأمان وهم الآن يهددهم الفقر والجوع وتدهور أوضاعهم الصحية.

آثار سالبة

من جانبها، تقول الاستشارية النفسية والاجتماعية أسماء محمد جمعة “يقصد بمراكز الإيواء أماكن تجمعات المواطنين الذين فروا من حرب الخرطوم بشكل اضطراري، ولا يمكن للإنسان أن يجد الراحة مهما كانت الخدمات التي تقدم له، والنازح يجد نفسه أمام حياة قاسية ومعاناة نفسية واجتماعية وجسدية، فضلاً عن أن الإنسان لا يجد سعادته وهو يعاني التشرد من منزله الخاص، إضافة إلى عدم شعوره بالحرية التي يدير بها شؤونه الخاصة، كما أن المشكلات والاحتكاكات التي تحدث في المعسكرات تكون ذات طابع جماعي لها آثار سالبة على الجميع، وغالباً أن الإنسان في مثل هذه الظروف لا يستطيع الفصل في العقبات بمعزل عن الآخرين، مما يترتب عليه عدم الشعور بالأمان والسلامة بخاصة من الناحية الصحية وهي الأكثر خطورة”.

وتضيف “بسبب التكدس في هذه الأماكن تكون هناك أضرار صحية لسوء الخدمات المتردية، وهذا ما يعانيه النازحون بمراكز الإيواء، إضافة إلى إصابتهم باليأس والإحباط والمعاناة من الضغوط الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والقلق والخوف، وهذه الظروف القاهرة تستوجب من مراكز الإيواء توفير استشاريين متخصصين يعملون بشكل مستمر، حتى يتجاوز النازحون معاناتهم والتأقلم على الواقع في ظل الأوضاع الحرجة التي تمر بها البلاد”.

معاناة مستمرة

في المقابل يشير المتخصص في أمراض الكلى أحمد عبدالله إلى أن “السودان قبل اندلاع الحرب كان يعاني هشاشة في الجانب الصحي بسبب هجرة الكوادر الطبية وعدم توفر الدواء واحتكاره بالسوق السوداء، إلى جانب عدم تأهيل المستشفيات بخاصة الحكومية، مما أدخل المنظومة الصحية في تدهور، وفي ظل الحرب شهدت المستشفيات استهدافاً وقصفاً من قبل ميليشيات الدعم السريع واتخذوها سكنات لهم مما أدى إلى خروج المستشفيات من الخدمة، ونزوح كثيف نحو الولايات الآمنة، ومع تصاعد وتيرة الاشتباكات زاد الوضع سوءاً بمعسكرات النازحين بسبب صعوبة إيصال الإمدادات الغذائية والصحية لها، بخاصة أن فيها مرضى يعانون أمراضاً مزمنة كالسرطان وأمراض القلب والسكري والضغط والفشل الكلوي، وأدى تزايد أعدادهم إلى التزاحم على ماكينات الغسل على قلتها، فيما تسبب انقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمر في وفاة عدد كبير من المرضى”.

ويرى عبدالله أن “معاناة النازحين في مراكز الإيواء تتفاقم يومياً في ظل تفشي الأوبئة التي تنتشر بولايات السودان المختلفة، بخاصة وسط شريحة الأطفال وكبار السن، وكذلك بالنسبة إلى الحوامل بفضل النزوح وعدم المتابعة، فمعظمهن أصيب بمرض سوء التغذية الحاد وأنجب بعضهن على الطرق، مما أدى إلى إصابتهن بحمى النفاس، وفي هذه الظروف القاسية وتردي الأوضاع الصحية، إذا لم تنته الحرب وتعود الحياة إلى طبيعتها ستتفاقم المعاناة ويصبح الوضع كارثياً”.

جريدة العرب اللندنية


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.