فيلم سوداني جميل بامتياز، «ساكت»، مكتوب بحرفية صادقة قبل أن يتحول لفيلم، هو الأول روائياً لمخرجه «محمد الكردفاني»، وقبل أن يعرض في الإمارات سبقته شهرته بعرضه في مهرجانات دولية عدة، ونيله جوائز مستحقة، ثم دخوله دار العروض في مصر محققاً إيراداً مالياً جيداً، رغم أنه يستحق أكثر، فهو من الأفلام العربية المصنوعة من أجل السينما، لأنها تحمل قضية، ورأياً سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولكنها مرحب بها تجارياً، ولعل أهم جوائزه الأربع عشرة، حصوله على جائزة الحرية في مهرجان «كان»، وترشحه ليمثل السودان في جوائز «الأوسكار» في مارس هذا العام.
الفيلم يبحث عميقاً في قضية كانت مسكوتاً عنها في قاع المجتمع السوداني، وصراعه الاجتماعي والثقافي والعرقي وحتى الديني بين أهل الشمال وأهل الجنوب، وتناقضات تلك الحياة، فالقصة تبدأ بعد سقوط طائرة زعيم الجنوب «قرنق» ووفاته، وقبل الانفصال التاريخي والجغرافي بستة أعوام، وفي منزل رجل شمالي متعصب، ويؤمن بالتفرقة بين البشر، ومتزمت اجتماعياً، متزوج من مغنية، لكنه ظل يهددها بالطلاق إن تجرأت على الغناء، فغدت لعبة الكذب الطيب لعبتها، خاصة حين صدمت طفلاً جنوبياً، وهربت، ليتبعها أب الطفل حتى بيتها ليتلقاه زوجها ويطلق عليه النار فيقتله، بحجة الدفاع عن منزله وزوجته، انغمست بعدها الزوجة في الكذب الطيب تكفيراً عن فعلة زوجها لتبحث عن الأسرة التي سجلت حالة وفاة معيلها ضد مجهول، وإلغاء كل أوراقه وسجلاته من قسم الشرطة، لكنها استطاعت أن تحصل عليها بالرشوة، وشغف الشرطي السكير بها، والذي حاول استغلال حاجتها للستر والكذب على زوجها، لكنها ألزمته حدوده، لتضم العائلة الجنوبية المنكوبة في بيتها، الأم عاملة، والصبي أرسلته للدراسة في مدرسة خاصة، وأصبحتا صديقتين بعد أن شجعتها على أن تكمل دراستها، لكن بتواطؤ الكذب بينهما، فالجنوبية شكت بدفق كل تلك العواطف عليها، من قبل الشمالية، حتى رأت أوراق زوجها المدسوسة في المنزل، لكنها كذبت ليدرس طفلها، ويأويهما منزل الشمالي، حتى ظهر بطل جنوبي منظم سياسياً، ومحارباً عسكرياً في حياتها، والذي سيغير حالها وحال ابنها، مثلما كان يريد أن يغير حال الجنوب بانفصاله، ويبدأ في البحث عن حالة زوجها لتتكشف بعدها الحقائق، وينشط الجنوبيون، ويصوتون بنسبة غالبة للانفصال، لتبدأ حياة جديدة للجميع لجوليا وارتباطها بالجنوبي المناضل، ولابنها الذي حمل السلاح صغيراً، ولزوجة الشمالي التي قررت ترك الكذب الطيب، والكذب على رجلها، لتبدأ حياة عشقها من جديد، وترك زوجها والعودة للغناء، والرجل الشمالي الذي أجبر على الاعتذار للجنوبي وتقبل ردة فعله والانصياع لواقع جديد مفروض عليه، رغم أنه يؤثر عليه، وعلى امتيازاته وموقعه التاريخي، واتساعه الجغرافي.
الفيلم يعد إضافة جديدة ودافعة للسينما في السودان والوطن العربي، وهو جهد فني كبير بإمكانيات لم تكن سهلة وفي متناول اليد، لكن الفريق الفني صنع الفرق، وصعد بمحليته وقصصها إلى الواجهة العالمية، وداعاً جوليا.. هو وداع للجنوب! هكذا يختصر الناس حكايات الأوطان.
جريدة الاتحاد
ناصر الظاهري