استراتيجية الذئب: الدعم السريع في ولاية الجزيرة (1-2)

استراتيجية الذئب: الدعم السريع في ولاية الجزيرة (1-2)

عبد الله علي إبراهيم

وضع الهجوم على ولاية الجزيرة واحتلاها في ديسمبر 2023 قوات الدعم السريع تحت المجهر كما لم يحدث لها من قبل حتى في معاركها في الخرطوم وتطهيرها العرقي في الجنينة بولاية دارفور. أو ربما وضعت هي نفسها تحت المجهر لأنه بدا أنها لا تتورع دون ارتكاب الفظاظة.

وبدا، لسوء حظها، أنه حتى قرار الهجوم على الولاية لم يصدر عن قيادتها. فأسر محمد حمدان دقلو لمن اجتمع به من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية السودانية (تقدم) بأديس أبابا في يناير 2024، أنه لم يصدر أمراً بالهجوم على الجزيرة. ففي حديث لبكري الجاك، القيادي بـ”تقدم”، قال إن من قام بالهجوم فرداً هم “فزع”، مما يعرف بالميليشيا الحليفة للدعم السريع، وهي ليست منه وذات انتماءات قبلية ولكن تستمد رأس مالها الاجتماعي والسياسي منه. بل كشف لهم عن مخاوفه من مثل هذا الفزع لأنه قد يحاربه هو نفسه في يوم من الأيام. فليس هذه الارتجال في التحركات العسكرية من حسن إدارة الحرب خاصة باحتلال ولاية كانت أوت آلاف مؤلفة من النازحين من ويلات حربها في الخرطوم، فأمنوا لها ليجدوا أنفسهم مشردين في الآفاق من جديد.

وأثارت انتهاكات الدعم السريع في قرى الجزيرة ثائرة “تقدم” التي يرى خصومها جنوحها لطرف الدعم السريع فلا تذكر له انتهاكاً حتى ذكرت للقوات المسلحة مثله أو أكثر. وبلغ من ذلك أنها بنت الهجوم على الجزيرة في يومه الأول للمجهول بتحذيرها من “تمدد” الحرب للولاية بدون ذكر الطرف الذي مددها. ولكن خرج له هذه المرة، وخروق الدعم السريع لحرمات قرى الجزيرة قد اتسعت على الراقع، من تقدم من أثار نقدا صريحا ومباشرا له.

دعا القيادي بـ”تقدم” ياسر عرمان، قائد قوات الدعم السريع إلى إدانة الجرائم التي تنفذها قواته في الجزيرة والعمل على إيقافها. وحذر من تفجر الأوضاع في الولاية قائلا، “ما يحدث سيدفع الآلاف من شباب الجزيرة لحمل السلاح للدفاع عن قراهم”.

وهو تسليح سيتم، في قوله، على أسس عرقية وإثنية مما يخدم الإسلاميين، الفلول، الذين يريدونها حرباً لا تبقي ولا تذر. ورثى “عرمان” للدعم الذي يفقع عينه بإصبعه قائلاً، “كأن الدعم السريع نصب لنفسه فخا باجتياح الجزيرة أو ابتلع فخا نصبه خصومه من الفلول.” وأعاد فكرة أذاعها بعد اجتياح ولاية الجزيرة مباشرة وهي أن يجتمع الدعم السريع بقيادات المجتمع السياسي والمدني والقبائل بولاية الجزيرة “لوقف مسلسل الانتهاكات وتطوير وسائل حماية داخلية ووضع خطة صارمة لإخراج المسلحين من القرى والأحياء السكنية.”

وسمع الدعم السريع من خالد عمر يوسف، من قيادي “تقدم”، قولاً ثقيلاً. فقال عن انتهاكاتهم إنها “بشعة وتحط من آدمية الناس وتقلل منهم ويجب أن تنتهي”. وطلب من الدعم أن يلتزم بقوة بتعهداته الخاصة “بملاحقة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات في الجزيرة” وهي تعهدات صدرت عن حميدتي في أعقاب احتلال مدينة مدني وبوادر خروق قواته فيها. وانتهى خالد بمثل ما انتهى إليه عرمان من أن أهل الجزيرة قوم عزل ولا ينبغي أن تكون حرب الدعم السريع ضدهم على استعدادهم الكبير “للتعايش مع أي وضع متى توفر لهم الأمان وسبل كسب العيش”. ولا أعتقد أن لمجيء كل من عرمان وخالد من ولاية الجزيرة دخل في هذا التعنيف الشديد الطارئ عليهما للدعم السريع. لكن بدا أن الضيق بتمادي الدعم السريع فيما هو فيه قد بلغ الحناجر.

وبدا أيضاً أن العالم ضاق ذرعاً أيضاً بمسلسل جرائم الدعم السريع في الجزيرة. فاتفقت ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة لليندا توماس-قرينفيلد، التي التقت اللاجئين من دارفور في تشاد خلال الخريف الماضي، أن تعقد مؤتمراً صحافياً في 6 مارس لعرض تقرير خبراء الأمم المتحدة عن السودان. قرأت فيه فقرات مضرجة من التقرير. جاء في أحدها أن الدعم السريع ومليشياته المتحالفة نهبوا المدراس والمستشفيات والأسواق ومباني الحكومة ومواد الإغاثة الإنسانية التي تحطمت بفعل قصف القوتين المتحاربتين، الجيش والدعم السريع. وقرأت فقرة أخرى على الحضور عن وضع الدعم السريع لقناصة على الطرق الرئيسة مستهدفاً المدنيين بمن فيهن نساء ونساء حوامل والشباب. وفقرة ثالثة قالت إن الدعم اغتصب بنات بعضهن في سن الـ14 في مخازن منظمة الأغذية الدولية التي سيطر الدعم السريع عليها. وعرضت السفيرة صوراً لفظاعات الدعم في مقاتله للمساليت. وأملت السفيرة أن يهز هذا التقرير الدامي العالم من سباته ليفيق للرعب الذي يطرد أمام ناظريه. ولوقفة كهذه لسفيرة لدولة عظمي مثل الولايات المتحدة نذر.
وفرت لنا رسالة أخيرة أملاها أحدهم على النت نافذة نادرة لسياسة “التعايش” مع الدعم السريع التي سأل كل من عرمان وخالد من أهل قرى الجزيرة اتباعها. وقيمة الرسالة في أنها تدرج مدرج عرمان وخالد لقول صاحبها إنه استسلم لحقيقة احتلال الدعم السريع للجزيرة. وهو استسلام لا تسليماً لأن الرجل سيء الظن بالدعم السريع جداً. ولكنه رأى الواقعية في هذا الاستسلام طالما أن الحكومة عجزت عن حمايته. ونفذ صاحب الرسالة، الذي ذيلها باسمه واسم قريته وقد حجبناهما للأمان، إلى دقائق معايشة قريته مع الدعم السريع بما وفر لنا نافذة استثنائية للنظر في تراكيبه، وظروف الخدمة فيه، ومهنيته مما لا تجده في كتابات أسرفت في فضحه وإدانته كما سنرى. قال الراسل إن نهب قريته تم على أيدي راكبي دراجات بخارية (مواتر):

تقوم بالنهب المواتر بينما التاتشرات (واشتهر بها الدعم السريع) تكون راكزة في الشارع ولا تدخل القرية. وركاب المواتر النهابة سكارى. فإن دخلت البيت بعد نهبهم وتركهم له أزكمت أنفك رائحة العرقي كأنه صنع في الغرفة نفسها. والبنقو في جيوبهم. هم ليسوا آدميين. فالواحد منهم يضع البندقية على عنقك ويقول هات السيارة. وهو جاد. وتتدخل نساء الأسرة لحمل زولهن لإعطائه المفتاح لسلامته.
ونواصل

لوحة خلدت عصب المرتزقة في حروب الأمراء والملوك في القرن السابع عشر قبل تكون الدولة الحديثة في أوربا من كان معاشهم في استباحة القرى والمدن. وعرفت هذه الاستباحة ب”استراتيجية الذئب”.
أرجو من محسن للفرنسية أن يعيننا في تعريب ما تحت اللوحة فقد اخترت التي بين ايديكم عفوا . ومن بين هذه اللوحات واحدة تصور قيام الأهالي بالدفاع عن أنفسهم بوجه ذئاب المرتزقة.

Exit mobile version