محمد جلال أحمد هاشم
جوبا 17 مارس 2024م
هذه مقولة يطرحها الكثير من الناس خلال هذه الحرب. بل إننا نصادفها عدة مرات في اليوم الواحد. وعليه، دعونا ندير النقاش أدناه مع شخص افتراضي يحمل الرأي المشار إليه أعلاه.
***
إذن سنماشي الرأي القائل بأن هذه الحرب هي بين الجيش السوداني ومليشيات الجنجويد، وكل واحد منهما أسوأ من الآخر، وبالتالي الحياد هو الموقف الصحيح تجاه هذه الحرب. إذن، في ظل هذه الفرضية، لا أملك إلا أن ألجأ إلى بعض الخيال، ذلك لأن ما يعانيه حملةُ هذا الرأي هو في أصله عدم سعة المخيال الفكري لديهم.
1) نحن الشعب، والدولة هي سفينة نملكها نحن وتبحر بنا في مجاهل المحيط حيث لا ارض تبدو أمامنا.
2) الجيش معنا في هذه السفينة جزء لا يتجزأ منا، بأنه يفترض فيه أن يحمينا ويحمي السفينة، لكنه انحرف عن هذا وسيطر على السفينة وعلينا. وبالتالي أصبح يتعامل مع السفينة ومعنا كما لو كنا ملكا له وليس العكس.
3) ميليشيات الجنجويد هي مجموعة من المرتزقة اصطنعهم الجيش لقمعنا وإلقائنا في البحر متى ما قمنا بأي مقاومة لاسترداد سفينتنا.
4) دارت الحرب بين الجيش ومليشيات الجنجويد حيث أرادت مليشيات الجنجويد الاستفراد بالتحكم فينا وفي السفينة (خطاب حميدتي مطالبا الجيش بالاستسلام)، فاتضح الآتي من خلال يوميات الحرب التي تشهدها:
أ) الجيش يريد التخلص من مليشيات ليكون له التحكم الكامل في السفينة وفينا نحن، وفقما درج عليه، لكن أيضا وفق نظام إدارة السفينة، بمعنى أنه نعم قد صادر حقنا في إدارة وامتلاك سفينتنا، لكنه لا يحرمنا من حق الحياة فيها وفق ما جرت به أعراف إدارة السفينة (أي نظامية الدولة order of State).
ب) مليشيات الجنجويد تقوم بحرق أي جزء استولت عليه في السفينة، بجانب التنكيل بنا نحن المدنيين أصحاب السفينة العزل كما رأينا في الجنينة ونيالا وزالنجي وام روابة والخرطوم وود مدني وعموم قرى الجزيرة. فهي لا تدير الأجزاء التي تقع تحت سيطرتها بطريقة نظامية الدولة order of State، بل تعمل عكس ذلك بنشر الفوضى (بما يعني في النهاية إغراق السفينة – أي تسييل مؤسسة الدولة).
ج) أي منطقة يسيطر عليها الجنجويد تجد المدنيين العزل يهربون إلى المناطق التي لا تزال تحتفظ بنظامية الدولة من مؤسسات خدمة مدنية وأسواق وأندية اجتماعية وقضاء وبوليس وتعليم وبنوك بما في ذلك هذا الجيش نفسه … إلخ.
د) في المقابل أي منطقة تسيطر عليها مليشيات الجنجويد تجدهم قد قاموا بتجريدها من كل معالم نظامية الدولة وأحلوا محلها الفوضى، وليس انعدام القانون، بل اختفاء جمييييييع المؤسسات الدابة على نظامية الدولة.
ه) النتيجة المستخلصة:
(1) الجيش له مصلحة وجودية في بقاء السفينة (الدولة) لأن بقاء السفينة يعني بقاءه هو؛
(2﴾ مليشيات الجنجويد ليست لها مصلحة في بقاء السفينة (الدولة) ذلك لأن لهم مراكب (دول الجوار) ولأن أغلبهم بلغ بهم الغباء الأيديولوجي درجة ألا يعرفوا أن بقاءهم هم أنفسهم يكمن في بقاء هذه السفينة (الدولة)؛
(3) إذا تمكن الجيش من السيطرة، فهذا يعني بقاء السفينة (الدولة) بما عليها؛ أما إذا سيطرت مليشيات الجنجويد على السفينة، فهذا يعني ببساطة أنه لم تعد هناك سفينة. لماذا؟ لأن السفينة (الدولة) تعني ببساطة وجود المؤسسات الدالة على نظامية الدولة order of State، وهذه (كما رأينا ولا زلنا نرى في مناطق سيطرة الجنجويد) كيف تقوم مليشيات الجنجويد بتسييلها، بينما رأينا، ولا زلنا نرى، كيف يحافظ الجيش على نظامية الدولة في المناطق التي هو متواجد فيها ولا وجود للجنجويد؛
(4) نحن كملاك للسفينة، أي أصحاب الجلد والرأس (أي الشعب السوداني صاحب الدولة المختطفة من قبل الجيش والكيزان والجنجويد … إلخ) سوف نعاود سيرتنا الأولى التي يشهد عليها من حيث مقاومة الحكم العسكري والديكتاتوري، أكانوا من العسكريين صرفا (كما في نظام الفريق عبود 1958م – 1964م الذي أطاحت به ثورة الشعب في أكتوبر)، أو كانوا من تحالف قوى اليسار ثم لاحقا قوى اليمين الطائفية والدينية مع العسكر (كما في نظام مايو 1969م – 1985م الذي أطاحت به ثورة الشعب في أبريل)، أو كانوا من تحالف الكيزان عديييييل كدا والعسكر (كما في نظام الإنقاذ الذي أطاحت به ثورة شعبية في أبريل 2019م).
***
وعليه، بالنسبة لأهل المنطق والمخيال الفكري، على أقل تقدير، وبموجب البينات والأدلة والمنطق الذي استعرضناه أعلاه، يمكن أن يصلوا إلى النقاط التالية:
1) الذين ينظرون إلى هذه الحرب على أنها بين الجيش السوداني ومليشيات الجنجويد هم ليسوا فقط اختزاليين، بل هم أصلا لا يؤمنون بإرادة الشعب. فهذه الحرب، وبموجب الحالة المعاشة، هي في حقيقتها حرب مليشيات الجنجويد وشذاذ الآفاق من المرتزقة وبدعم قوى الإمبريالية العالمية عبر الوكلاء الإقليميين وكمبرادوراتهم المحليين ضد الشعب السوداني وضد كيان الدولة الوطنية السودانية.
2) الذين يختلط عليهم الأمر في هذه الحرب بين طرفي هذه الحرب هم في حقيقتهم ينامون ويمثلون كل مناقصة دولة ما بعد الاستعمار من حيث العجز الفكري والذهني والنفسي لفهم ما تعنيه مقولة “الدولة الوطنية الويستفالية الحديثة”، هذه الدولة التي تأسست قبل 4 قرون ولا يزال هناك من يجهلون طبيعتها بالرغم من أنهم قد وُلدوا وعاشوا، ولا يزالون في كنفها، ومع ذلك لم يتمكنوا من فهمها. فأشطرهُم ذلك الذي يحاكم وطنيتها أدائيا performatively بينما مناط القول في وطنيتها هو بنيوي structurally. ومهما تكلمنا وشرحنا، ثم شرحنا وتكلمنا، تكون رد أفعالهم على نحو المثل: “نقول تيس، يقول احلبوه”، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3) وفي رأيي أن عدم التمكن من استعمال ما يعنيه مصطلح “الدولة الوطنية الويستفالية” ناجم عن جائحة الغباء الأيديولوجي التي استشرت وكانت دلالة استشرائها هو حكم الكيزان (أكثر مجموعة في تاريخ السودان غير مؤهلة لأن تحكم أخلاقيا أو فكريا أو سياسيا أو حضاريا) لثلاثين عاما، ثم مليشيات الجنجويد (آخر أسلحة المركز الأيديولوجي الإسلاموعروبي لتسييل مؤسسة الدولة السودانية). زاليوم، لا يقف الغباء الأيديولوجي لوحده مستأسداً في الساحة، بل يروّج له الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية وهي (كما سبقت بذلك كتاباتها وتحذيراتنا بسنين قبل هذه الحرب) الصف الثاني من طبقات الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. فإذا كان الصف الأول يتشكل بصورة أساسية من المتأسلمين كذبا ونفاقا، فإن الصف الثاني يتشكل بصورة أساسية من المتعلمنين كذبا ونفاقا، ولا غرو، فهما وجهان لعملة واحدة.
***
ختاما؛
إنه المركز الأيديولوجي الإسلاموعروبي يعمل على تفكيك السودان وتسييله حتى لا يكون هناك شيء اسمه “الشعب السوداني” أو “جمهورية السودان”. وهذه ليست هي المرة الأولى في تاريخ الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي تقوم فيها بتسييل دولة بعينها، ذلك متى ما شعرت الطبقات التي تحكم بموجب هذه الأيديولوجيا الغاشمة أن قبضتها على الحكم والسيطرة قد بدأت تتراخى. انظروا إلى الأندلس، وانظروا وبعدها إلى كل دول وسط آسيا، ثم انظروا الى زنجبار قبيل ما يزيد على نصف قرن قليلا.
*MJH*
جوبا 17 مارس 2024م