سفارة السودان بالقاهرة ما عادت مجرد سفارة بعد حرب ابريل 2023 و تدفق حوالي مليون سوداني إلى مصر في وضع استثنائي، جاءوا بغير أوراق ثبوتية ولا شهادات أكاديمية ولا حتى –بعضهم- جوازات سفر. واستطالت الحرب لتقترب من عام كامل بما يفاقم أوضاعهم، ومع هذا تحملت السفارة –والقنصلية طبعا- الصدمة الأولى ثم نجحت في القفز إلى مربع ساهم في تيسيير المعضلات التي تقابلهم، والآن تستعد السفارة لتدشين خدماتها الكترونيا حيث يحصل المواطن على مايريده دون الحاجة للوصول إلى مقر السفارة.
لكن الذي يثير الاهتمام أكثر، أن السفارة تستضيف وتوفر خدمات للسفارات السودانية في مختلف أرجاء العالم، خاصة الخدمات الحيوية مثل توثيق الشهادات واعتماد الأطباء الجدد “أداء القسم” وغيرها. و في العام الماضي 2023 نجحت السفارة في انقاذ امتحانات الشهادة المتوسطة السودانية في أكثر من دولة بعد ما كادت تؤدي ظروف الحرب إلى إلغائها.
المسألة هنا لا تتعلق بالانجازات وحدها بل بالزمن الذي تحققت فيه، كل هذا الجهد بما فيه تحليل وتصميم وتنفيذ نظم الكترونية تغطي 19 خدمة – حتى الآن- في حوالي 6 أشهر فقط، رغم أنف كل التحديات التي كانت تقف كالغول في طريقها.. يكفي الاشارة إلى أن هذه النظم البرامجية تحققت بجهد شباب متطوعين يقودهم البروفسير يحيى عبدالله لم ينالوا جنيها واحدا جزاء ما يستحقون عليه الأجر الجزيل.
كان التحدي في التغلب على ظروف الحرب المباغتة ومن بينها عدم توفر الموارد والاعتمادات المالية، ومع ذلك تحقق الانجاز الذي أتوقع أن يتمدد إلى السودانيين في دول العالم كافة ان يستفيدوا منه بعد تعميم النظم البرامجية في سفارات السودان.
ما حققته السفارة السودانية بالقاهرة يفتح أسئلة مشروعة في مختلف الاتجاهات، منها على سبيل المثال: ألم يكن ممكنا تحقيق النجاح ذاته داخل السودان، بادارة مدنية تتولى تنظيم وادارة الخدمات والحياة بصورة عامة حتى تخفف إلى أقصى درجة المشاكل التي واجهها المواطن السوداني المنكوب بالحرب الذي اضطر غير باغ ولا عاد إلى ترك بيته وماله وعمله بل وبعض أهله والنزوح إلى ولايات أخرى بعيدا عن نيران الحرب؟
سأضرب مثلا بوجه واحد من هذه المطلوبات الحيوية، غالبية العاملين في الخدمة المدنية بولاية الخرطوم الذين لم يعد ممكنا مواصلة أعمالهم لوقوع مقارها تحت سيطرة الدعم السريع، ألم يكن ممكنا نقلهم مؤقتا إلى الولايات بصورة منظمة تسمح لهم بمواصلة أعمالهم، وبالضرورة المحافظة على الأجر الشهري حتى يستطيعوا المحافظة على بعض التوازن الاقتصادي الذي يساهم في تخفيف الحرب المباشر عليهم؟
في تقديري أهم ما برز في تجربة سفارة السودان بالقاهرة، تحت قيادة السفير محمد عبدالله التوم، أن الأعمال العظيمة لا تنجح لتوفر مواردها المالية بل الارادة والقدرة الخلاقة على تخطى العقبات.
إذا استطعنا تكبير الصورة Zoom Out لما أنجزته السفارة بالقاهرة فقد نستطيع رؤية صورة وطن كامل يعاد بناؤه على منهج تفكير جديد، بمبدأ فكر كبيرا Think Big ، أي أحلم كبيرا، كما يقول الشاعر أبو القاسم الشابي :
إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر
ولم أتجنب وعور الشعاب ولا كبة اللهب المستعر
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحُفر
و سأعود للموضوع..
عثمان ميرغني
**حديث المدينة السبت 30 مارس 2024