حرب السودان تهدد أعشاش النسور الأوروبية المهاجرة

طيور جارحة وجدت غذاءها في مناطق المعارك بين الجيش السوداني و"الدعم السريع"

تعودت النسور والطيور القمّامة في أوروبا أن تنتقل في موسم هجرتها السنوية الراتبة عبر السودان كمحطة في طريقها إلى العمق الأفريقي، لكن المفاجأة هذا الموسم كانت في تأخر تلك الطيور عن موعد عودتها إلى الديار الأوروبية بعدما وجدت غذاءها في الجثث التي خلّفتها الحرب.

بخلاف مضاعفاتها البيئية وتحولها إلى مورد غذاء للكلاب والقطط الضالة، يبدو أن جثث المعارك المتزايدة والمتراكمة في الشوارع منذ أشهر الحرب الأولى في السودان، التي لم تتمكن السلطات والمنظمات المحلية والدولية من جمعها ودفنها، قد وفرت أيضاً الموئل والغذاء للطيور الجارحة العابرة للأراضي السودانية في رحلة هجرتها السنوية العابرة للقارات، بخاصة النسور الأوروبية التي لوحظ أنها لم ترجع كعادتها إلى ديارها في الموعد المحدد وسط مخاوف أوروبية من تحول في سلوكها الغذائي قد يهدد حياة البشر مستقبلاً هناك.

غياب عن الموعد
تعودت النسور والطيور القمّامة في أوروبا أن تنتقل في موسم هجرتها السنوية الراتبة عبر السودان كمحطة في طريقها إلى العمق الأفريقي، لكن المفاجأة هذا الموسم كانت في تأخر تلك الطيور عن موعد عودتها إلى الديار الأوروبية كما درجت كل عام، إذ لاحظ المركز الأوروبي لمراقبة الحياة الفطرية والبرية، أن النسور وكل الطيور القمامة لم تعد إلى ديارها خلال فصل الشتاء هذا العام كما هو معتاد.

بعد المراجعة وتتبع الشرائح المثبتة في بعض النسور تأكد المركز أنها جميعها ما زالت موجودة داخل حدود الجغرافية لدولة السودان، وفي مناطق العاصمة السودانية الخرطوم ومحيط مدينة الفاشر بدارفور ومنطقة بابنوسة في غرب كردفان، على وجه التحديد. وهي تحديداً المناطق الساخنة التي تشهد معارك وعمليات حربية نشطة ومستمرة من ثم تمتلئ بالجثث.

ونوهت نشرة أصدرها المركز الأوروبي، إلى أنه وبعد التقصي اتضح أن تلك المناطق تشهد معارك عسكرية طاحنة بين الجيش السوداني و”الدعم السريع”، حيث وفر القتال كميات معتبرة من لحوم البشر الموتى، نتيجة عدم التمكن من دفن الجثث بسبب استمرار وضراوة القتال.

مخاوف أوربية من يتغير النمط الغذائي للنسور الأوربية (حسن حامد) (2)
مخاوف أوروبية من تغير النمط الغذائي لنسور القارة (اندبندنت عربية – حسن حامد)
وشدد المركز الأوروبي لرقابة الحياة الفطرية والبرية، على ضرورة إجراء بحوث ودراسات معمقة على تلك النسور حال عودتها مجدداً إلى أوروبا، خشية أن يكون نمطها الغذائي قد تغير بسبب تناول الجثث البشرية، بحيث يصبح خروج الأطفال والتخييم في المناطق الخارجية بدول الاتحاد الأوروبي عملاً غير آمن مستقبلاً.

وكانت سلطات ولاية الخرطوم قد توقفت عن دفن الجثث منذ مايو (أيار) الماضي، بحسب مفوض العون الإنساني بالخرطوم خالد عبدالرحيم، مما تسبب في وجود كميات كبيرة من الجثث في العراء حيث قتل أو مات أصحابها في مناطق خارج سيطرة الجيش، لا سيما في المناطق الملتهبة التي تحولت إلى بقاع مهجورة لا حياة فيها، كما أن هناك كميات من الجثث المنتشرة في مناطق أم درمان القديمة.

ونشطت السلطات المحلية في منطقة أم درمان خلال الأيام القليلة الماضية مع توسع انتشار الجيش وسط المدينة القديمة في حملات إصحاح بيئي بجمع ودفن مئات الجثث في مناطق المعارك بأم درمان، وتمكنت السلطات بالفعل من جمع ودفن نحو 963 جثة كثير منها تيبس وتحلل، ويجري العمل على تجميع جثث المعارك الأخيرة التي دارت أثناء عملية تحرير مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.

الموئل والغذاء

في شأن هذه الظاهرة، أوضح مصور ومؤسس جمعية طيور السودان عوض صديق، أن توفر الموائل والغذاء وقلة المشاركين فيه بالمناطق المعينة إلى جانب خلوها من الحركة من حيث قلة أعداد البشر تمثل أهم أسباب بقاء النسور المهاجرة من أوروبا إلى أفريقيا في السودان.

وكانت هجرة الطيور من أوطانها إلى السودان تبدأ في منتصف أغسطس (آب) ثم تبدأ في العودة أدراجها في مارس (آذار) في كل عام، لكن لاحظ مهتمون أن أعداد الطيور المهاجرة بدأت تتناقص في السودان منذ فترة ليست بعيدة منذ قبل بداية الحرب.

ويعتبر السودان أحد أهم مسارات هجرة الطيور في أفريقيا والعالم ومحطة لكثير من الطيور المحلقة المهاجرة، ويمثل ملجأ شتوياً عالمياً تتوافد إليه عشرات الآلاف من أنواع الطيور المختلفة في رحلاتها الموسمية الممتدة لآلاف الكيلومترات، حيث المناخ الملائم لموسم التزاوج، مع وفرة الغذاء.

ويرى صديق، أن العادة في التسلسل الغذائي للطيور القمامة هي أنها تتغذى على الجيف المختلفة وفي حال وفرة الجيف البشرية يصبح من البديهي أن تكون الجثث الموجودة على خط سير هجرتها هي طعامها للتزود حتى لا تفقد السعرات الحرارية ولكي تحافظ على طاقتها أثناء حركتها ومواصلة رحلتها حتى تتمكن من الوصول إلى مناطق بناء أعشاشها بسلام، أما توطنها فيرتبط باستمرارية وفرة الغذاء إلى جانب وجود منطقة وفضاء حر خال من الحياة البشرية.

مخاوف أوربية من يتغير النمط الغذائي للنسور الأوربية (حسن حامد) (2).jpg
العادة في التسلسل الغذائي للطيور القمامة هي أنها تتغذى على الجيف حتى لو كانت بشرية (اندبندنت عربية – حسن حامد)​​​​​​​
هل تكفي الجثث؟

من جانبه، يؤكد بشري حامد الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، أن هجرة الطيور الموسمية في الشتاء من أوروبا إلى مختلف قارات العالم وبخاصة أفريقيا بينما تعود لتقضي صيفها في أوروبا، معتبراً أن تأكيد فرضية توطنها في السودان ليس بالأمر البسيط أو السهل، بل هي مسألة تتطلب دراسة تقوم على إحصاءات وجداول ومعايير كمية ومسائل حسابية، ومقارنات لأعداد النسور الواصلة من أوروبا وكميات الجثث بكل منطقة، وكم عدد النسور التي لم ترجع، مبيناً أن المعايير الوصفية قد لا تكفي وحدها لحسمها، وقد يكون الوقت مبكراً للحكم على أسباب عدم عودتها واستمرار وجودها بالبلاد.

يلفت حامد إلى أن العدد الموجود الآن من النسور المهاجرة يكاد ينحصر في مناطق دارفور والخرطوم فقط وليس في السودان كله، وأن عدد الجثث لا تكاد تكفي لتغذية كل هذا الكم الهائل من تلك الطيور، ولذلك يرى أن الموضوع في حاجة إلى مزيد من البحث والإجابة عن تساؤلات كثيرة ما زالت عالقة حول الظاهرة.

عوامل متعددة

وأوضح حامد أن احتمال توطن النسور الأوروبية بالسودان بشكل نهائي أمر غير وارد، لأن هناك عوامل أخرى هي التي تحدد وتتحكم في تفاصيل تلك الهجرة السنوية للطيور الأوروبية، من أهمها أحوال الطقس والمناخ، مما يعني أن ما حدث يعتبر ظاهرة موقتة ليس لها تأثير جذري على السلوك الهجري السنوي لتلك النسور، لافتاً إلى أن هذا الوضع سينتهي حالما تعود الأمور إلى طبيعتها بعد انتهاء الحرب واختفاء الجثث كطعام.

ويرجع متخصصون بيئيون أسباب هجرة الموسمية لعدة أسباب أهمها البحث عن الغذاء، حيث تقل غالباً فرص البحث عن الغذاء في أماكن تكاثرها، مما يـدعـو الطيـور للبحـث عـن منـاخ يتوفـر فيـه الغـذاء، أما السبب الثاني فهو مرتبط بالتـزاوج والتكاثر نتيجة توفـر المناخ المناسب والغذاء في البيئات التي تهاجر لها.

يضم السودان أكثر من أربع محميات طبيعية تذخر بكل أنواع الحيوانات البرية، ويتمتع بمناخ السافانا الغنية والسافانا الفقيرة في الغرب والوسط ومناخ صحراوي جاف في الشمال، وتعتبر الفترة من مارس إلى يوليو (تموز) مرتفعة الحرارة تصل أعلاها 42 درجة مئوية وأدناها 27 درجة، ويمتد موسم الأمطار (الخريف) فيه من يوليو حتى أكتوبر (تشرين الأول)، حيث يكون الطقس معتدلاً من نوفمبر (تشرين الثاني) إلى فبراير (شباط) بدرجات حرارة تراوح بين 28 و16 درجة مئوية.

ارتباك وخوف

وحذر متخصصون في مجال البيئة والحياة البرية، من تأثير الحرب في السودان على الطيور المهاجرة بصورة عامة، لتسببها في حدوث ارتباك في مسار رحلاتها ووجهاتها نتيجة الاشتباكات ودوي أصوات الرصاص والدمار البيئي.

ولم يستبعد الناشط البيئي عبدالمؤمن مضوي أن تؤدي الحرب إلى ارتباك في حركة هجرة الطيور الموسمية مستقبلاً، فكثير منها يأتي من النصف الشمالي للكرة الأرضية عبر مسارات طبيعية معروفة ومحددة بالنسبة لها، والحرب تخيف الطيور وتؤثر في قدرتها على الحركة الحرة المفتوحة من أراضي أوروبا وطقسها البارد عبر شمال أفريقيا وصولاً إلى السودان، وكل ذلك يؤثر فيها سلكها الطبيعي السنوي المعتاد وقد يقلل من أعدادها لاضطراب حركتها بشكل ملحوظ، فضلاً عن أن الحرب تمنع الطيور عموماً من بناء أعشاشها ومساكنها الموقتة.

سلوك مؤقت

على الصعيد نفسه، اعتبر الطبيب البيطري فيصل الدسوقي، أن ما حدث في شأن بقاء النسور الأوروبية المهاجرة هذا الموسم أمر موقت لا علاقة أو تأثير دائم له في تغيير سلوك تلك الطيور، لأنه من المعروف علمياً أن هنالك عوامل أخرى تحدد طبيعة ومواقيت هذه الهجرة السنوية من ضمنها أحوال الطقس والمناخ، مما يعني أن ما يحدث في السودان هو تغير موقت في سلوك تلك النسور المهاجرة، حالما يعود الوضع إلى طبيعته بعد انتهاء الحرب واختفاء الجثث كموائد لطعامها.

ثراء وتحديات

توجد بالسودان عدد من السلالات النادرة، من الطيور المستوطنة والمهاجرة معاً يقدر عددها بنحو 600 نوعاً، لكنها مهددة بسبب الصيد الجائر، والتقلص المطرد في مساحات الغابات المحمية والمحجوزة والمفتوحة بسبب القطع الجائر للأشجار، وندرة المراكز والمنظمات المهتمة بحركة الطيور المهاجرة مما يعتبر من التحديات الكبيرة المتربطة بوجود تلك الطيور.

وتنتشر في أرجاء السودان نحو 850 فصيلة من الطيور المهاجرة بعضها في الغابات والجبال والوديان والمستنقعات وأخرى في السهول والصحارى يفد معظمها من القطب الشمالي عبر أوروبا مروراً بالبحر الأبيض المتوسط.

وتصنف النسور من الطيور الجارحة، التي تتميز بسرعة تفوق نحو 300 كيلومتر في الساعة لحظة انقضاضها على الفريسة، إلى جانب حدة البصر الفائقة بما يفوق البشر بنحو يصل إلى ثمانية أضعاف.

وتقدر المسافات التي تقطعها الطيور الجارحة المهاجرة سنوياً إلى المناطق الأكثر دفئاً في أفريقيا، بأكثر من ثمانية آلاف كيلومتر، في رحلة يعبر خلالها ما يقارب 1.5 مليون طائر كل عام من المناطق الباردة إلى أفريقيا.

قتال مستمر

وأسفرت حرب السودان المندلعة بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، وهي تشارف على إكمال عامها الأول، عن سقوط أكثر من 14 ألف قتيل في عموم البلاد، منهم ما لا يقل عن 4500 شخص في العاصمة وحدها.

وتقلص عدد سكان العاصمة السودانية التي لم تهدأ فيها المعارك من نحو 11 مليون نسمة، إلى أقل من ثلاثة ملايين بسبب فرار أهلها داخلياً وخارجياً،، مع عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين، بحسب المرصد السوداني الحقوقي.

وتسببت الحرب في نزوح نحو ثمانية ملايين شخص داخل البلاد، في أزمة نزوح صنفت بأنها الأكبر عالمياً، إلى جانب لجوء أكثر من 1.7 مليون شخص دول الجوار، وفق تقارير أممية ومحلية.

جمال عبد القادر البدوي صحفي سوداني

اندبندنت عربية


انضم لقناة الواتسب

انضم لقروب الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.