تكمل الحرب في السودان عامها الأول، وسط عوامل كثيرة أدت إلى استمرارها كل هذه المدة دون حسم عسكري أو حل تفاوضي سلمي للأزمة، ما جعل البعض يفسر ذلك بتكافؤ القوة العسكرية للجيش والدعم السريع، والتي حالت دون تحقيق النصر لأي منهما حتى اللحظة، وذهب بعض آخر أن المجتمع الدولي والدول الكبرى اتبعوا استراتيجية عدم التدخل بصورة حقيقة لحل الأزمة، رغبة منهم في الوصول إلى نقطة “توازن الضعف”، والتي بعدها يحل الخارج بأجنداته وأطماعه في تفكيك الدولة وقواتها المسلحة.
أسباب التأخير
آخرون فسروا سبب تأخير القوات المسلحة في حسم المعركة لأسباب عدة، منها انطلاق الشرارة الأولى للحرب من العاصمة الخرطوم، ما أدى إلى تقييد حركة الجيش وعدم تحقيق الأهداف بالسرعة المطلوبة، نتيجة لحرب المدن والكر والفر والتي لا يجيدها جيش نظامي، على عكس مليشيا تجيد هذا النوع من الحروب، علاوة على أن بداية الحرب كانت للدعم السريع قوات فاقت 100 ألف مقاتل من المشاة، في مقابل ما لايزيد عن 10 آلاف فقط للجيش، ما جعل القوات المسلحة تتخذ استراتيجية دفاعية منذ البداية لحماية مقراتها، والتي كانت تستميت المليشيا في اقتحامها والسيطرة عليها كالقيادة العامة وسلاح المهندسين والمدرعات وغيرهم، لأن نجاحهم في هذه السيطرة كان معناه هزيمة للجيش.
شئياً فشيئاً تحولت استراتيجية الجيش إلى الهجوم الحذر على مسافات قليلة من المقرات مع الحفاظ على الاستراتيجية الدفاعية، ورغم تسديد الجيش لهجمات قوية بالطيران والتي تفوق بها على الدعم السريع، إلا أن المليشيا رغم خسارتها الكبيرة من المعدات والمقاتلين، وجدت دعما كبيراً من خارج البلاد ساعد على صمودها حتى اللحظة، إلى أن وصلت الحرب الآن بين الجيش وقوات مرتزقة من خارج السودان.
وفي الشهور الأخيرة فاجأنا الجيش بتغيير استراتيجيته من الدفاع إلى الهجوم بعد تطوير أدواته واستجلاب أسلحة جديدة، ما أدى إلى انتشاره بشكل ملحوظ على الأرض، كما أوضح الخبراء أن انضمام المقاومة الشعبية والحركات المسلحة إلى الجيش ساعد كثيراً في استراتيجيتة الهجومية، مافسر انزعاج المدافعين عن المليشيا من فكرة المقاومة الشعبية والتي هاجموها بشدة، مبررين ذلك بأن هذا سيدخل البلاد في حرب أهلية، متناسين حجم الانتهاكات التي انتهجتها الدعم السريع في كل المدن التي دخلتها من إذلال للناس وسلب ممتلكاتهم وتشريدهم واغتصاب نسائهم وبناتهم، ومهما أكد الجيش أن هذه المقاومة ستكون تحت امرته وتدريبه، لم تقتنع الجهات الموالية للدعم السريع بذلك، رغبة منها في عدم الحسم العسكري الذي سيعطي لها قبلة الحياة على جناح المليشيا التي تحاول اعادتها للمعادلة السياسية من جديد في البلاد.
تحويل الاستراتيجية
اللواء الدكتور أمين اسماعيل مجذوب الخبير العسكري والأمني أوضح من جانبه أنه كان هناك حصار محكم ومفاجئ في بداية الحرب منذ اليوم الأول على معسكرات وقيادات الجيش السوداني. وقال مجذوب لـ “المحقق” إن الجيش اتخذ استراتيجية “الدفاع النشط” منذ البداية نتيجة لهذا الحصار، بأن يدافع الجيش ويستخدم الطيران والمدفعية لتدمير الكتلة الصلبة لقوات الدعم السريع، مضيفاً أن هذه الاستراتيجية استمرت لنحو ثلاثة أشهر، وبعد ذلك تم التحول “للدفاع العدائي” بمعنى خروج بعض مجموعات العمل الخاص تنفذ مهام وتعود إلى الموقع الدفاعي، وتابع أنه في الشهر الثامن والتاسع للحرب تحولت الاستراتيجية تماماً إلى الهجوم، بالهجوم من مواقع قريبة، وتوسيع دائرة الدفاع، ثم نظافة المنازل المحيطة بالمباني العالية والقناصة، ثم المرحلة الأخيرة وهي مرحلة المتحركات، بأن تكون هناك قوات تتحرك في مسافات أزيد من 10 كيلومترا.
المستنفرون والمسيرات
ولفت مجذوب إلى أنه مازاد من نجاح عملية الهجوم هو نزول المستنفرين وما يعرف بالمقاومة الشعبية والتي وفرت قوات مشاة على الأرض بصورة كبيرة،فضلاً عن دخول المسيرات للخدمة سواء كان مسيرات تم الحصول عليها من خارج البلاد، أو المسيرات التي تم تعديلها وتصنيعها محلياً بواسطة منظومة الصناعات الدفاعية، مضيفاً أنه تم تحرير مساحة كبيرة جداً من أم درمان وتحرير مباني الإذاعة والتليفزيون، ونظافة أحياء عديدة وصلت حتى غرب وجنوب أم درمان، عدا بعض الجيوب الصغيرة التي جرت نظافتها، وفي شرق النيل تحركت قوات كبيرة من الجيش هاجمت مناطق شمبات وكافوري والعديد من المواقع في شرق النيل، ومازالت العمليات الهجومية مستمرة للجيش، موضحاً تصاعد العمليات العسكرية بهدف تحرير ولاية الجزيرة ومدينة ود مدني، وقال الآن حركة الجيش من أربع محاور من مدينة الفاو تجاه القضارف واتجاه سنار والمناقل وشرق كبري حنتوب، مبيناً أن هذه الاستراتيجية للعمليات العسكرية تطلبت نوعية معينة من المدفعيات الصاروخية والطائرات القاذفة والمقاتلة، وأن هنالك تسليحاً جديداً دخل إلى المعركة شتت أذهان وخطط الدعم السريع، وأضاف إن الدعم السريع بدأ يهاجم القرى، ويحاول شغل الجيش بالهجوم على مناطق سنار وغيرها واستخدام المسيرات في عطبرة، مؤكداً أن هذه كلها محاولات لتعطيل خطط الجيش السوداني الهجومية.
وأشار مجذوب إلى توفر عوامل عديدة لصالح القوات المسلحة منها توفر المشاة والمسيرات والطائرات الحديثة والمدفعيات الصاروخية والدعم النفسي من الحاضنة الشعبية، منوهاً إلى تعدل الخطاب العسكري والسياسي، وإلى الحديث عن وعود بالنصر وعدم الجلوس للتفاوض ومرحلة ما بعد ايقاف الحرب “اللاءات الثلاث”، مؤكداً أن هذه من ثمرات الاستراتيجية الهجومية التي اتبعتها القوات المسلحة.
توازن مختل
بدوره أوضح اللواء متقاعد “مازن اسماعيل” أنه منذ بداية الحرب كان توازن القوى ما بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع مختلاً لصالح المليشيا من حيث الاحتشاد البشري المدعوم بمرتزقة غرب إفريقيا وبعض دول الجوار وغيرهم والتسليح والعتاد والاستعداد، والتموضع الاستراتيجي في مفاصل الأرض الحيوية للبلاد في العاصمة القومية وبقية الولايات. وقال اسماعيل لـ ” المحقق” إنه بجانب ذلك فقد كان للمليشيا تحديد ساعة الصفر ، ولا ننسى تأهبها بحلفاء ميدانيين مثل شركة فاغنر، ورعايتها بحلفاء إقليميين مثل تشاد كخط إمداد لوجستي بالعتاد والمرتزقة، وقبل ذلك كله الإمارات كراعية لمشروع المليشيا والعقل المدبر لغرفة التحكم القيادية ومقدمة الدعم المادي واللوجستي والإعلامي والدبلوماسي، مضيفا بجانب ذلك صنعت الإمارات للمليشيا غطاءً سياسياً من مجموعة “قحت/ تقدم”، وأعدت له خطة عمل سياسية ودبلوماسية وإعلامية موازية ومتكاملة مع التمرد والإنقلاب العسكري الذي اقترفته المليشيا، مؤكداً أن كل ذلك منح المليشيا آنذاك أفضلية ميدانية كبرى جعلتها (والذين معها) يظنون أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافهم، وتابع يجب أن لا ننسى بأن تموضعات المليشيا آنذاك كانت في قلب العاصمة القومية وعواصم الولايات، وهو ماجعل القوات المسلحة مغلولة اليد من استخدام أقصى ما لديها من قوة حرصاً منها على سلامة المدنيين ، موضحاً أن القوات المسلحة اختارت الوضع الدفاعي في مواقعها حتى لا تخوض مع المليشيا حرباً مفتوحةً وسط كثافة سكانية من المدنيين، مؤثرةً امتصاص الضربة الأولى في مواقعها، وأنها أتاحت الهدنة تلو الهدنة لإخلاء البعثات الدبلوماسية والجاليات الأجنبية والمدنيين، وقد كلفها ذلك الكثير، وقد احتملته بصبرٍ وجلد.
مجريات متعددة
وأبان اللواء مازن إسماعيل أن المعادلة العسكرية تغيرت بمجريات متعددة، وأن أهمها شروع المليشيا في واحدة من أبشع جرائم الاستهداف العام وغير المبرر لكل المدنيين قتلاً واغتصاباً ونهباً واسترقاقاً واستعباداً جنسياً وفتحاً لأسواق النخاسة، وأضاف إنها اتبعت سياسة الأرض المحروقة لكل البنية التحتية والصناعية والسجلات المدنية والقضائية والوثائق والآثار التاريخية والممتلكات الخاصة وغيرها، مضيفا أن ذلك أدى إلى انطلاق التعبئة العامة من كل الشعب بشكل عفوي كرد فعل على الانتهاكات الشنيعة التي تقوم بها المليشيا تجاه كل الشعب، وتابع أيضا انكسار النواة الصلبة للمليشيا بالصمود الأسطوري لوحدات القوات المسلحة واحترافية أدائها مقابل الهجوم البربري للمليشيا باعتماد كثافة الموجات البشرية مما أفقدها عشرات الآلاف من قواها البشرية والعتاد، اضافة إلى الدعم الشعبي اللامحدود واللامشروط للقوات المسلحة سوى باجتثاث سرطان المليشيا حتى آخر مرتزق ومجرم وإرهابي وإخضاع المتبقي للعدالة، علاوة على انضمام الحركات المسلحة للقتال إلى جانب القوات المسلحة بعدما تكشف لهم أن مليشيا الدعم السريع عبارة عن غزو أجنبي يُستخدم فيه المليشيا ومن معها كمرتزقة لصالحه.
وضعية الهجوم
كما أوضح اسماعيل أن تحول القوات المسلحة لوضعية الهجوم بدأ متزامناً في العاصمة القومية وولاية الجزيرة، ولذلك تبدلت موازين القوى اليوم لصالحها، فهي تحاصر ولاية الجزيرة من كل الاتجاهات، وتتقدم حثيثاً إلى عاصمة الولاية ود مدني، مضيفاً وفي الخرطوم تستكمل تطهير مدينة أم درمان ، وماضيةٌ في تطهير مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، وبالأمس فقط تلقت المليشيا هزائم ساحقة على مشارف مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، وقبلها هزيمة المليشيا في شرق سنار، وهي تتلقى هزائم يومية بولاية غرب كردفان من الفرقة 22 في بابنوسة، مؤكداً أن القوات المسلحة حالياً تمتلك زمام المبادرة بالكامل في كل الولايات التي بها وجود للمليشيا سواء في الخرطوم أو الجزيرة أو إقليم دارفور.
استنزاف العدو
من جهته أكد ضياء الدين بلال الكاتب الصحفي والمحلل السياسي أن المُؤامرة كانت أكبر من إمكانيات الجيش واحتمال المواطنين. وقال بلال لـ ” المحقق” لو اختار الجيش المواجهة المفتوحة مع المليشيا ذات النيران الكثيفة والدعم والإسناد الإقليمي الكبير، لسحق خلال أيام معدودة ولنال حميدتي ومَن وراءه مُبتغاهم على عجل ويسر، موضحاً أن حرب المدن من أخطر وأصعب الحروب، وخسائرها جسيمة، وأنها تحتاج خُططاً معقدة وتضحيات كبرى وفقاً لرأي خبراء عسكريين، مضيفا لم يكن أمام الجيش المعد للحروب التقليدية الدفاعية، لا سيما بعد حل هيئة العمليات المدربة على حرب المدن، إلّا اتباع استراتيجية استنزاف العدو، مع التضحية المُؤقّتة بالأرض والاحتفاظ بمراكز السيطرة والتحكم إلى حين تخفيض قوة نيران العدو عبر استهداف السيارات وقطع الإمداد وضرب المقار، ومن ثم الانقضاض عليه، وهو كسير الجناح، خائر القوة، يتملّكه الإحباط، وهذا ما تخبر عنه الآن فيديوهات الهزائم المُتلاحقة.
النيلين