المال في مقابل إتمام الإجراءات…ابتزاز السودانيين في أوغندا

يكشف تحقيق “العربي الجديد” الاستقصائي عن ابتزاز اللاجئين السودانيين في أوغندا على يد شبكات من الموظفين المكلفين إتمام إجراءاتهم، لكنهم إما أن يدفعوا رشى، وإما أن ينتظروا إلى ما لا نهاية، ما يوقف حياتهم ويعطل أوراقهم.

  • دفعت اللاجئة السودانية ناهد عبد الرحمن، 152 ألف شلن أوغندي (40 دولاراً أميركياً) إلى موظف سوداني الجنسية يعمل في مكتب اللاجئين بمركز شرطة كمبالا القديمة (يختص بتسجيل اللاجئين بالتنسيق مع المفوضية السامية للأمم المتحدة)، من أجل إتمام إجراءات اللجوء والحصول على بطاقة هوية، بعدما فشلت أكثر من مرة في الحصول عليها منذ مايو/ أيار 2023، عقب هروبها من الحرب الدائرة في بلادها منذ الخامس عشر من إبريل/ نيسان في العام ذاته.

و”باختصار، لم يكن أمامي من خيار سوى دفع المال بعد معاناتي وصديقاتي مع الموظف نفسه الذي رفض إتمام الإجراءات دون دفع الرشوة”، تقول العشرينية عبد الرحمن التي ما إن دفعت حتى تسلمت البطاقة بعد خمسة أيام، مضيفة لـ”العربي الجديد”: “حاولت تقليل المبلغ في ظل الوضع الصعب الذي نعيشه، لكن الموظف قال إنه يتقاسمه مع آخرين”.

ويتكرر ما سبق في مراكز تسجيل اللاجئين، بحسب معلومات المحامية الأوغندية نتالي جيسمون، الباحثة في المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام (مستقل)، التي وثقت معاناة طالبي اللجوء. وتوضح جيسمون لـ”العربي الجديد”، أن تلك الشبكات تقوم على متعاونين من جنسيات طالبي اللجوء، وهؤلاء يعملون في الترجمة وإكمال الإجراءات، وتموّل مرتباتهم من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

المال في مقابل إتمام الإجراءات

“يحق لأي شخص التقدم بطلب للحصول على اللجوء، ويجب الرد عليه بالقبول أو الرفض، وبينما تختلف الإجراءات من دولة إلى أخرى، إلا أن الثابت هو أن يكون المتقدم هارباً من اضطهاد أو من مناطق حروب وأخرى خطرة”، حسبما تحدد المديرة السابقة للبرامج في المنظمة الدولية للهجرة بمصر، الدكتورة أميرة أحمد، الخبيرة في قضايا الهجرة واللاجئين، موضحة لـ”العربي الجديد” “أنه في الحالة السودانية يجب أن تقبل طلبات اللجوء مباشرة”.

وعقب الوصول إلى أوغندا، يتعين على اللاجئ فتح بلاغ وتقديم طلب لجوء في مركز شرطة وتعبئة استمارة تتضمن بياناته، مثل الاسم والعمر وعدد أفراد الأسرة وموعد الوصول وأسباب اللجوء وطريقة الدخول إلى البلاد، ومن ثم يذهب إلى مكتب رئيس الوزراء OPM المعنيّ بالتنسيق مع المفوضية السامية للأمم المتحدة، ليستكمل إجراءات أخذ البصمات وحجز موعد زمني للمقابلة، وبعدها يتسلم شهادة طلب لجوء Asylum seeker توفر له حق الحماية والتمثيل القانوني، وعقب استكمال التسجيل يحصل على بطاقة هوية للاجئين صالحة لمدة خمس سنوات، كما توضح المحامية جيسمون وموقع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، اللذان أكدا أن الخدمات والأنشطة التي تقدمها المفوضية مجانية.

تعميم jpg
تعميم يوضح أن الخدمات المقدمة في مكتب رئيس الوزراء OPM مجانية

لكن طلب المال خلال استكمال مراحل اللجوء تكرر مع سبعة سودانيين خلال الفترة بين مايو 2023 ومايو 2024، بحسب ما وثقه مُعدّ التحقيق خلال محاولاتهم الحصول على بطاقة اللجوء في قسم شرطة كمبالا القديمة، ومكتب رئيس الوزراء OPM ومعسكر كيرياندونغو (خصص لتسجيل اللاجئين السودانيين في منتصف يناير/ كانون الثاني 2024) شمال شرقيّ أوغندا، الذي تواصل مع موظف سوداني يعمل فيه بعدما حصل على رقم هاتفه من سائق سيارة أجرة ينقل طالبي اللجوء من كمبالا إليه، وأوهمه بأن أسرة مكونة من خمسة أفراد ترغب في إتمام الإجراءات، وتحتاج إلى تسجيل طلبات اللجوء والحصول على البطاقات، فرد عليه عبر تطبيق “واتساب” بأن تكاليف استخراج بطاقات اللجوء لأفراد الأسرة الخمسة 951 ألف شلن (250 دولاراً)، على أن يتم ذلك خلال يومين، إن كانت شبكة إدخال البيانات في حالة جيدة. وأضاف في المراسلة التي حصل “العربي الجديد” على نسخة منها، أنه يتقاسم المال مع موظفين في المعسكر يعملون على تسريع العملية عبر الشبكة.

 

 اعتراف موظف في معسكر كيرياندونغو شمال شرقي أوغندا بتقاضي رشاوى مقابل تسهيل الإجراءات
اعتراف موظف في معسكر كيرياندونغو شمال شرقي أوغندا بتقاضي رشاوى مقابل تسهيل الإجراءات

وتكرر الأمر مع سمر محمود، التي أكدت في محادثة مع معد التحقيق عبر تطبيق واتساب أن ثلاثة من أصدقائها أكدوا دفع 114 ألف شلن (30 دولاراً) عن كل واحد منهم لموظفين سودانيين وأوغنديين لتسهيل الإجراءات، وهو ما فعلته محمود، قائلة: “عقب الدفع يوضع اسم اللاجئ في قائمة منفردة لتسريع الإجراءات وأخذ البصمة واستخراج بطاقة اللجوء”.

وقطعت الثلاثينية محمود مع أسرتها المكونة من ثلاثة أشخاص (بينهم والدها المسن والمريض)، أربع ساعات من كمبالا إلى المعسكر، مضيفة بألم: “تعقيد الإجراءات أرهقنا وسهل من حصول الموظفين على الرشاوى”.

ويتطابق ما سبق مع إقرار موظف (رفض الكشف عن هويته خشية الفصل من العمل) في معسكر كيرياندونغو بأن موظفين سودانيين وأوغنديين، يتلقون رشى في مقابل تسهيل الإجراءات وإتمام التسجيل، معيداً ذلك إلى تدني مرتباتهم، التي لا تتجاوز 130 دولاراً شهرياً، كما يقول، مضيفاً لـ”العربي الجديد”: “الجميع يعلم ذلك، لكن ليس بيد الإدارة شيء لتفعله”.

وتتفاقم تلك الممارسات بسبب المناخ السائد في أماكن التسجيل، رغم أن قانون العقوبات الأوغندي لسنة 2000 شدد عقوبة السجن على الموظف المرتشي، إذ تنص المادة 273 على أن “أي موظف عام يطلب أو يوافق على تلقي أو يقبل أي ميزة لنفسه أو لشخص آخر للتأثير في أدائه لواجبه الرسمي يرتكب جريمة تلقي رشوة، وعقوبتها السجن لمدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على عشر سنوات وغرامة مالية”، كما تقول المحامية جيسمون.

في منتصف يناير الماضي، قرر مكتب رئيس الوزراء OPM، نقل اللاجئين السودانيين إلى معسكر كيرياندونغو من أجل إتمام إجراءات اللجوء، بعد ارتفاع أعدادهم، وعدم قدرة مركز شرطة كمبالا القديمة على استيعابهم، كما يوضح عثمان آدم، رئيس لجنة الاتصال في مجتمع اللاجئين السودانيين، لـ”العربي الجديد”.

وخلال الثلث الأول من العام الجاري، استقبلت أوغندا 14.453 وافداً جديداً من السودان، وفق تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الثالث من إبريل الماضي، بعنوان “الوضع في السودان بين 28 مارس/ آذار والثالث من إبريل 2024″، ومن بينهم 7500 لاجئ من الحاصلين على مؤهل جامعي، بينما استقبلت البلاد خلال العام الماضي 30 ألف لاجئ سوداني، بحسب بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

44,453 لاجئ سوداني في أوغندا منذ بدء الحرب في إبريل 2023

وبسبب التزايد في الأعداد، تفاقمت عمليات استغلال اللاجئين وإجبارهم على دفع الرشى، ومن بينهم العشرينية أسرار أحمد، التي لاحظت الأمر في كل مراحل تسجيل اللجوء، عقب وصولها إلى أوغندا من خلال الحدود البرية مع دولة جنوب السودان في 17 أغسطس/ آب 2023. ففي مركز شرطة كمبالا، طلب منها موظف سوداني الجنسية إثبات الشخصية وأخذ صورة لها في غرفة خارج المركز، ثم طلب منها الدخول مع صديقتها إلى غرفة فارغة بالمركز، وقال لهما إنّ كل شيء هنا بمقابل مالي، وعندما رفضتا دفع المال أعاد لهما الأوراق وطلب منهما مغادرة المكان، وفي المرة الثانية عرضت ورفيقتها على الموظف دفع نصف المبلغ 114 ألف شلن (30 دولاراً) بسبب عدم امتلاك المال وظروفهما السيئة، ما جعله يوافق على البدء بالإجراءات الأولية للجوء.

وفي مكتب رئيس الوزراء OPM، قابلت أحمد موظفاً سوداني الجنسية ودفعت له كذلك 380 ألف شلن (100 دولار)، بعد أن أخبرها بأن عدم الدفع قد يسبب تأجيل استكمال الإجراءات عاماً آخر، مضيفة لـ”العربي الجديد”: “كنت أحتاج البطاقة لأتمكن من فتح حساب بنكي والتسجيل للدراسة، وبالفعل تسلمتها بعد شهر من دفع المال”.

تزاحم اللاجئين السودانيين أمام مكتب (OPM) في كمبالا
تجربة أخرى خاضها معد التحقيق، إذ حُرم بطاقة اللجوء، بسبب رفضه دفع 114 ألف شلن (30 دولاراً) لموظف سوداني في مكتب رئيس الوزراء OPM من أجل استكمال الإجراءات، على الرغم من تحذير الموظف له بأن عدم الدفع سيطيل الأمر، وقد يرفض طلب اللجوء، الأمر الذي يؤكده المحامي الأوغندي ديفيد واساويا، مدير مركز تنمية المجتمع والتعايش السلمي (غير حكومي يُعنى بتقديم المساعدة القانونية للاجئين)، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “يدفع اللاجئون المال مقابل تسهيل الحصول على بطاقة اللجوء، رغم أن الإجراءات كلها مجانية”، وهو ما يعيده المحامي السوداني زهير عبد الله، المسؤول السابق في الحماية القانونية للاجئين بمكتب بالمفوضية السامية في السودان، إلى عدم معرفة اللاجئين بالإجراءات وكل ما يحيط بها من قرارات صادرة عن المفوضية، وبالتالي يسهل اصطياد الضحايا الكثر الذين تستهدفهم الشبكات التي تبدأ من سائقي التاكسي، وصولاً إلى الموظف المختص.

توقف إجراءات تسجيل طلبات اللجوء في حال رفض اللاجئ دفع الرشوة

تشديد العقوبات لم يوقف الظاهرة

يعترف مصدر في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول بالحديث للإعلام)، بوقوع تجاوزات، لكنه أكد لـ”العربي الجديد” أن مكتب رئيس الوزراء OPM ومفوضية اللاجئين، شكلا لجنة بالتعاون مع الشرطة بعد تلقي 14 شكوى من لاجئين سودانيين منذ أغسطس 2023، ضد موظف سوداني الجنسية مهمته مساعدة طالبي اللجوء، وجرى تتبعه والقبض عليه متلبّساً، وفُصل من العمل في يناير 2024، ويقول: “المفوضية لا تتساهل في أي عمليات فساد. وفي حال ورود شكاوى، سنتعامل معها بجدية”.

و”يؤدي انتشار اللاجئين وتزايد أعدادهم، إلى دفع اللاجئين رشاوى لسماسرة من أجل تسريع عملية التسجيل”، وفق دراسة وضع اللاجئين في أوغندا، الصادرة عن المجلس النرويجي للاجئين (منظمة غير حكومية تعنى بمساعدة الناس وحقوق الإنسان في الدول التي تستضيف اللاجئين) في عام 2018، لكن الخبيرة في قضايا الهجرة، أميرة أحمد، تجد أن ظاهرة تلقي الرشى من قبل موظفي تقديم خدمات اللجوء أمر خطير يتنافى مع مبادئ منظمة الأمم المتحدة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التي يفترض أن لديها نظاماً محاسبياً يقوم على تدقيق شامل، وفي حال التأكد من وقوع تلك المخالفات، تجري تحقيقاً داخلياً وتحاسب المخالفين لوقف الأمر تماماً، وهو ما لم يقع، وكثيراً ما تمنّت الثلاثينية السودانية إيناس محمد، ألّا تكون مجبرة على خوض غماره، لكنها في النهاية تواصلت مع وسيط صومالي الجنسية ينسق مع موظف سوداني في مكتب رئيس الوزراء OPM، لتسهيل حصولها على بطاقة اللجوء، ودفعت مضطرة 152 ألف شلن (40 دولاراً)، وبالفعل حصلت عليها في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقالت لـ”العربي الجديد” إنه لا بد من اتخاذ إجراءات رادعة، ورقابة تمنع الموظفين الذين يعرقلون إجراءات التسجيل في حال عدم دفع المال.


انضم لقناة الواتسب

انضم لقروب الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.