هل فعلاً سقطت سنجة بسبب الحارس الشخصي..!؟

(1)
أثرت المعلومات المضللة (Misinformation) والمعلومات الكاذبة (Disinformation) بشكل كبير على حرب السودان التي اندلعت في 15 أبريل 2023. وكان لها دورٌ كبيرٌ في تعقيد النزاع واتساع رقعة الحرب وتفاقم الأوضاع الإنسانية والسياسية في البلاد.. والتسبب في أكبر موجة للنزوح شهدها العالم بحسب تقارير الأمم المتحدة.

قبل أن نخوض في التفاصيل والتحليل، علينا أولاً أن نشرح باختصار، ما هي المعلومات الخاطئة (Misinformation)، وما هي المعلومات المضللة (Disinformation)!!

تشير الأولى إلى المعلومات غير الدقيقة أو غير الصحيحة، والتي تُنشر دون (نوايا خبيثة).. وغالباً ما تكون بسبب أخطاء أو سوء فهم، والمتابع للأوضاع في السودان يجد أن هذه الظاهرة قد تأثر بها وشارك في تناميها غالبية مستخدمي قنوات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات الشخصية بنقلهم الأخبار قبل التثبت منها فتنتشر كالنار في الهشيم ليترتب عليها الكثير من الضرر الآني والمستقبلي واتخاذ القرارات الخاطئة..!!

أما المعلومات المضللة، فالمقصود بها نشر معلومات كاذبة عن عمد (بنية الخداع والتلاعب) بالرأي العام الداخلي والخارجي لتحقيق مكاسب وأهداف سوف نتطرّق لبعضها في هذا المقال، ولكن في سياق حرب السودان الحالية يمكننا القول إنّ المعلومات المضللة والكاذبة كانت سلاحاً فتاكاً استخدمته مليشيا الدعم السريع للتأثير والتلاعب بردود فعل المواطن البسيط والجيش السوداني، إضافةً للتحكم في الرواية Control the Narrative، وقد كان لهذه الاخيرة أثرٌ كبيرٌ في تضليل الرأي العام الدولي ومؤسساتة الإعلامية والسياسية والإنسانية والعدلية.

(2)
المحزن أنّ عدداً من كبار الكُتّاب والصّحفيين قد ساهموا بطريقة أو بأخرى في نشر الأخبار الكاذبة المضللة، ويعود ذلك لعدم التطور ولضعف التأهيل الأكاديمي، وبُعد الشقة بين الصّحفي السوداني وبين المعاهد الدولية والجامعات التي أصبحت تمنح هذا الموضوع اهتماماً عظيماً، وهنالك الكثير من الأوراق العلمية التي تناولت خطورته، كما طوّرت بعض المعاهد تقنيات للذكاء الصناعي لمحاربة الأخبار والمعلومات المضللة والكاذبة.

(3)
نتناول الآن بعض الأهداف التي وضعتها مليشيا الدعم السريع والتي يمكن قراءتها من سير الأحداث الحالية وسعيها الدؤوب لتحقيقها عن طريق استخدام المعلومات المضللة والخاطئة:

*تقويض المعنويات: بدا واضحاً أنّ هدم الروح المعنوية يمثل هدفاً رئيسياً لغرف إعلام المليشيا، وهي تستهدف بذلك قوات الجيش في مناطق التماس وتلك البعيدة التي تربط المناطق الآمنة، وتستهدف أيضاَ المدنيين من خلال نشر معلومات كاذبة ومضخمة عن الخسائر و(الخيانة من كبار قادة الجيش)، فتخلق بهذه المعلومات الكاذبة مشاعر الخوف والارتباك والشعور باليأس.

وبمرور سريع على قنوات التواصل الاجتماعي، وبالاستماع لأحاديث المواطنين في السودان، سوف تجد أن خطة الدعم السريع تحقق نجاحاً كبيراً جداً حتى الآن في تقويض الروح المعنوية عند غالبية الناس، وحتى عند الجنود في الميدان، المخيف هنا أنه لا توجد خُطة مُقابلة من الجيش السوداني والسلطات القائمة التي تترك الأمر رغماً عن خطورته لبعض المجهودات الفردية المتناثرة هنا وهناك.

من ناحية أخرى، استخدمت المليشيا سلاح المعلومات المضللة للتحكم في الرواية Controlling the Narrative وقد تأذّى السودان كثيراً من هذا الأمر حينما نجحت الخطط الإعلامية في تضليل الرأي العام الدولي الذي لا يزال يتحدث عن أن ما يجري هو صراع بين (جنرالين)، إضافةً (لتشويه الحقائق) الذي جعل من الصعب على الرأي العام الدولي (المحايد) معرفة ما يحدث بالفعل، أدّى ذلك لاتخاذ العديد من القرارات الخاطئة وردود الفعل الغريبة تجاه حرب السودان.

الأمر الأكثر خطورةً، هو أن انتشار المعلومات المضللة قاد إلى فقدان الثقة في وسائل الإعلام المحلية وحتى في الحكومة والجيش السوداني، وهو أمر يزيد من صعوبة تحقيق توافق مجتمعي حول أي مبادرات للسلام.

*خداع الجيش السوداني: هنا سوف أحكي لكم قصة تاريخية معروفة عن عملية (فورتيتيود) التي جرت خلال الحرب العالمية الثانية، عليكم فقط وبعد قراءتها وضع اسم مدينة (سنار) بدلاً عن مدينة (بادو كاديه)، واسم مدينة (سنجة) بدلاً عن مدينة (نورماندي) لتعرفوا كيف أنّ مليشيا الدعم السريع قد طبّقت حرفياً نظرية الحارس الشخصي (Operation Bodyguard) للاستيلاء على مدينة سنجة في ولاية سنار، مما يشير لتوظيفها لآلة إعلامية واستخباراتية متمكنة ومحترفة.

(طيب القصة شنو؟)؛ كانت عملية (فورتيتيود) جزءًا من خطط الحلفاء التي تهدف إلى تضليل القوات الألمانية حول موعد ومكان غزو أوروبا الغربية 194. وكان الهدف الرئيسي هو جعل الألمان يعتقدون أن غزو الحلفاء سيكون لمنطقة (بادو كاليه) الفرنسية (سنار) بدلاً من نورماندي (سنجة)، مما يدفعهم إلى تركيز قواتهم في المكان الخاطئ. وحتى تنطلي الخدعة على الألمان أنشأ الحلفاء جيشاً وهمياً.. واستخدموا دبابات وشاحنات وهمية، بالإضافة إلى معسكرات عسكرية زائفة وأجهزة لا سلكية تبث رسائل خادعة. كما قام الحلفاء بنقل قطع بحرية وطائرات إلى مناطق مختلفة، إضافةً لإطلاق معلومات استخباراتية مضللة عبر شبكات التجسس تشير إلى أنّ وجهتهم هي مدينة بادو كادليه (سنار).

عند اقتراب لحظة الصفر، نشطت الغرف الإعلامية في بث المعلومات الكاذبة والمضللة عبر وسائل الإعلام ونقلها من خلال (العملاء المزدوجين) إلى المخابرات الألمانية، وكانت المحصلة هي أن نجاح عملية (فورتيتيود) في خداع الجيش الألماني الذي اعتقد أن توجه الحلفاء لنواحي نورماندي، كان مجرد عملية (التفاف) لفك الحصار عن بادوكاديه (جبل مويه وسنار)..!!

نتيجة لذلك، تأخر الجيش الألماني في إرسال التعزيزات إلى نورماندي، مما ساعد الحلفاء على تحقيق (تقدم حاسم) في مهمة تحرير أوروبا الغربية من الاحتلال الألماني.. ببساطة هكذا سقطت مدينة سنجة.

عددٌ آخر من المناطق السودانية أسقطتها المليشيا فقط باستخدام سلاح المعلومات الكاذبة المضللة الذي عوّضت به عدم امتلاكها لسلاح الطيران وأظهرت في ذلك تفوقاً كبيراً، فاق ما يمكن أن تحققه السوخوي وغيرها من مقاتلات الجيش الحربية.

(4)
استخدمت المليشيا المتمردة وأذرعها، سلاح المعلومات المضللة والكاذبة في الوصول للمدن والمناطق التي لم تصلها آلة الدعم السريع العسكرية، فما يحدث في الشرق (حادثة مذيعة تلفزيون السودان) والتراشق بين قادة المكونات هناك، ما هو إلّا نتاجٌ لهذا الأمر الذي يهدف في محصلته النهائية لزيادة التوترات بين الجماعات المختلفة في السودان والتحريض على العنف وإثارة الفتن السياسية مما يقود إلى تعزيز الانقسامات السياسية وزيادة الصراع على السلطة.

(5)
أمرٌ آخر مُهمٌ للغاية ينبغي أن نتطرّق إليه، يتعلق بالبعد الإنساني لهذه الحرب، حيث تعمل المعلومات المضللة على حدوث ردود فعل غير متناسبة من منظمات المجتمع الدولي، حيث يظن الناس أنها تتناسى الخرطوم والجزيرة وغيرهمـا من المناطق المنكوبة حينما تتحدّث فقط عن إقليم دارفور وكيفية إيصال المساعدات الإنسانية إلى هناك، وعلينا أن نعلم هنا أنّ التحكم في الرواية والمعلومات المضللة يقود إلى توجيه المساعدات الإنسانية إلى مناطق، وإهمال مناطق أخرى تحتاج فعلاً للدعم الإنساني العاجل.. كما أنّ معلومة واحدة غير دقيقة حول الوضع الأمني في مناطق معينة، يدفع وكالات الإغاثة إلى تجنبها خوفاً على سلامة فرقها.

حتى أولئك الذين فرّوا بجلودهم من ويلات هذه الحرب يُمكن أن يقود التحكم في الرواية إلى صدور قرارات سياسية غير مستنيرة يمكن أن تتّخذها الدول التي لجأوا إليها مبنية على معلومات خاطئة، مما يؤثر على سياساتها تجاه المواطن السوداني فتضيق عليه الأرض بما رحبت..!!

(6)

في الظرف الحالي الذي تُكرِّس فيه الدولة كل إمكانياتها للعمل الحربي، فإنه يبدو من الصعب جداً تصميم استراتيجية مضادة بذات الإمكانيات المادية واللوجستية، كما أنه ليس في إمكانها تعليم المواطنين كيفية التحقق من مصادر المعلومات والتفريق بين الأخبار الحقيقية والمزيفة، سيّما في ظل هذا الإغراق والمصادر المفتوحة والتطبيقات المتعددة، إذاً فلا سبيل للحد من خطورة سلاح المعلومات المضللة سوى تعزيز الشفافية، وأن تمتلك الحكومة الجرأة الكافية لتقديم معلومات دقيقة وشفّافة للمواطنين ووسائل الإعلام، والرد بسرعة على الشائعات والمعلومات المضللة، إضافةً لذلك يجب دعم الصحافة المستقلة والصحفيين المحترفين الذين يسعون لتقديم تقارير دقيقة وغير منحازة.

هكذا يمكن التقليل من تأثير المعلومات المضللة والكاذبة على المواطنين، والجنود.. وحتى على سير العمليات الحربية.. أما الوقوف أمام هذه العاصفة المعلوماتية دون حراكٍ سوف يقود لضياع هذه البلاد.

قف: أقدم اعتذاري عن العنوان (المضلل) لهذا المقال.. والذي اخترته حتى تمنحني وقتاً فتقرأ ما كتبته حتى هنا.

صحيفة السوداني

Exit mobile version