السودان والكتل الأربع المُدمِرة.. ماذا عن الحل؟

السودان والكتل الأربع المُدمِرة.. ماذا عن الحل؟

_ د/ إبراهيم البشير الكباشي _

سبيل إلى إيجاد حل لأزمة السودان المدمرة من غير الكشف البصير لطبيعة الحالة المراد تصميم جهاز تنفيذي يكافئ خصائصها، دون نسيان أو تناسٍ لدور كل واحد من الأحلاف أو العناصر أو الكيانات أو الجماعات المنخرطة بدأب يومي نشط في أتون الحرب الماثلة على السودان.

فالتوصيف الجلي لما يجري في السودان اليوم، دون أدنى قدر من تهويل أو توهم، يقول إن الشعب السوداني وقواته المسلحة يخوضون حربًا شاملة، ضد عدوان، يستهدف إزالة البلاد تمامًا من خارطة وجودها، بما في ذلك اقتلاع السودانيين من أرضهم، بل اقتلاع ذاكرتهم التاريخية، ومحو كل رمز أو سجلّ أو دلالة مكتوبة، أو مسموعة، أو محتوى رمزي، أو مرفق علمي أو ثقافي، يشير إلى أنّ هنا بلدًا اسمه السودان، له حافظات تاريخية وثقافية، كما له حاضنات مجتمعية ودينية وحضارية.

مكونات أربعة
تأسيسًا على هذه الغايات الاستئصالية الجلية، كان المؤمل لدى قادة هذا المشروع، أن يتم بشكل خاطف، وأن يكون الخامس عشر من أبريل/نيسان عام 2023 هو اليوم الذي تنطلق مباشرة منه بداية النهاية لوجود السودان – الذي يعرفه الناس – على خارطة العالم.

هذا هو – دون ذرة من توهم أو تزيد – المشروع الذي بجري الإعداد له في نسخته الراهنة.. وذلك هو التوصيف الجلي لغاياته الأساسية ومنطلقاته.. وتلك هي خصائص الحالة التي يراد تصميم جهاز تنفيذي لمواجهتها، والعمل الجاد لمعالجة إفرازاتها على كل صعيد.

ومع ذلك – رغم جلاء كل هذه الحقائق – لا يزال بعض الناس أسرى التفكير الرغائبي القاصر.. وتلك حالة لا يتولد منها إلا غيبوبة مستدامة تستعصي معها اليقظة والانتباه لما يحاك للسودان.

آثار العدوان اليوم تغطي جميع مساحات البلاد، بينما لا نزال نذكّر بعض الناس – بعد زهاء العام ونصف العام – بأن خطرًا داهمًا يستهدف وجودهم، ولا يقابل بعضهم ذلك إلا كما يذكرهم به قارئ نشرة الأرصاد الجوية بأن موجة من برد أو حر يتوقع حدوثها الأيام القادمة! صدق الله العظيم، إذ يقول: “وما يذكر إلا أولو الألباب”.

يقول أهل التحقيق: إن أبنية التذكر ثلاثة: الانتفاع بالعظة، والاستبصار بالعبرة، والظفر بثمرة الفكرة.. فما أكثر ما أصابنا من عظات وعبر! وما أعظم حاجتنا اليوم إلى ثمار الفكرة الناضجة الراشدة المجردة من محابس الأنا!.. ومحابس الأنا كلاليب ثقيلة ما برحت تهوي بأهل السودان في مهاوي التيه منذ زمن بعيد.. سواء أكان ذاك الأنا فردًا، أو حزبًا، أو طائفة، أو قبيلة، أو جهة، أو غير ذلك.

وقبل أن يدلف السادة القادة إلى تخيّر العناصر التي يزمع أن تتولى إدارة البلاد في واقعها الراهن، يلزم أن تنجلي كل غشاوة (بصرية أو سياسية) حتى نرى بعين اليقين المكونات الأربعة المتعاضدة والمتناسقة للحلف الذي يقود اليوم مشروع تفكيك البلاد.

ونورد – للذكرى – فيما يلي الكتل المؤلفة لهذا الحلف متدرجة من الأهم إلى تلك الأقل أهميّة:

الكتلة الأولى:

تحالف سياسي دولي، متحكّم في عناصره ومكوّناته، تقوده بريطانيا وأميركا وفرنسا وإسرائيل ودول إقليمية.

ففي عواصم تلك الدول تمّ تصميم هذا المشروع الخطير منذ سنين خلت، في انتظار إنضاج العوامل الموضوعية اللازمة لإنفاذه، وقد تواترت، ثم تكاملت، تلك العوامل ابتداء من أواخر العام 2018، عند بداية الحراك الذي تولت عناصر هذه الكتلة صناعته ورعايته حتى انتهى بذهاب الإنقاذ.

الكتلة الثانية:

تم استقطاب قيادات حكومية نافذة في دول الساحل الأفريقي وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وإثيوبيا، كقوى إسناد سياسي وعسكري إقليمي، باستخدام مؤثرات مالية ظاهرة أو مستترة. كما تم استقطاب قيادات سياسية ودبلوماسية نافذة في المنظمات الإقليمية الأفريقية باستخدام ذات المؤثرات المالية، من أجل أداء الإسناد المطلوب لمشروع تفكيك الدولة، بدءًا من إنهاك وإضعاف قواتها المسلحة.

الكتلة الثالثة:

إن كتل التحالف الخارجي، الوارد ذكرها أعلاه، صنعت تحالفًا سياسيًا داخليًا مما سمي بأحزاب وكيانات “قحت” ثم لاحقًا “تقدم”، ثم من أفراد تربطهم علاقات شبكية مع دول الكتلة الأولى للتحالف الخارجي، ومنهم مَن اتخذ من تلك الدول مستقرًا له لعشرات السنين، غير أنه في حال تضارب المصالح يَبرز دائمًا ولاؤه للدولة التي وظفته ومنحته جنسيتها.

يلزمنا القول هنا، إن من بين الآلاف من مزدوجي الجنسية رجالًا ونساء شرفاء، خالية صحائفهم من توصيفات العمالة، أو الخيانة.

الكتلة الرابعة:

وهي الركن القتالي الداخلي الأهم، الذي أوكلت له عناصر التحالف الثلاثة العمل العسكري المباشر، الهادف لإنفاذ المشروع. تلك هي قوات الدعم السريع التي حشدت – لهذا الغرض – ودربت وسلحت ومولت مئات الآلاف من حواضن قبلية معروفة، ينحدر أغلبهم من عرب دارفور وامتداداتهم في تشاد وليبيا والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطى والكاميرون.. مستغلة حالة التوهان والغيبوبة التي صاحبت إنشاء حكومة “قحت”، وبتواطؤ منها منحت زورًا الجنسية السودانية لمئات الآلاف من مواطني دول الساحل الأفريقي؛ حتى ينخرطوا مرتزِقة في الدعم السريع.

وقد تعزز أيضًا هذا الحشد العسكري الضخم بمقاتلين مرتزقة من جنوب السودان – خاصة المدفعية الثقيلة – وقناصين مرتزقة من إثيوبيا واليمن وسوريا.. وغيرها.

وتعززت أيضًا قوات الدعم السريع بإمبراطورية مالية تجاوزت عشرات المليارات الدولارية، أودعت في بنوك دول خارجية، علاوة على تحكمها في بنك السودان المركزي، وأغلب مفاصل الدولة. حدث كل ذلك علانية دون أن تنبس القيادة العسكرية حينها ببنت شفة!

الكتل الأربع المذكورة منتظمة في حلف واحد هدفه إنفاذ غاياته.. ولكل كتلة مهامها المحددة لبلوغ هذه الغاية الإستراتيجية المرسومة.

إسناد شعبي
تتولى الكتلة الأولى مهمة التخطيط والتنظيم والتنسيق والتمويل وإدارة مسارب الحركة العسكريّة والسياسيّة والدبلوماسية على كافة الصعد؛ داخليًا وإقليميًا ودوليًا.

فلا ينبغي لذي بصر وبصيرة أن يظن للحظة واحدة أن هذه الكتل الأربع منقطعة الصلات والأهداف عن بعضها.. فهي ركائز علائقية متعاضدة ومتساندة لحلف واحد.. تضطلع كل كتلة منه بمهامّ محددة تناسب حالها، ولكن في مسار واحد ينتهي بالتشظي الشامل للبلاد.

وتأسيسًا على هذه الحقائق الجلية، يثور سؤال: ما هو المنهج الأكثر مناسبة لصناعة هيئات مدنية تتولى إدارة الدولة، وإسناد مجهودها الحربي – بانصهار متلاحم مع القوات المسلحة – من أجل إنقاذ البلاد ودحر العدوان بحلقات تحالفه الرباعية المذكورة؟

كثيرًا ما ذاعت في الأشهر الماضية دعوات تنادي بحكومة تتولى تحريك دولاب الدولة، وإدارة النشاط الحيوي الذي لا سبيل للبقاء من غير وجوده: الأجهزة والمؤسسات السيادية، والقطاع الاقتصادي، والقطاع الخدمي، والقطاع الأمني.. إلخ.

إن بلوغ أنسب المناهج لتركيب منظومة حكوميّة ذات خصائص وقدرات تكافئ حجم المطلوب – وقد أفضتُ في بيان مكوناته-، فذاك أمر يستوجب أوسع ما يمكن من الإسناد الجماهيري القاعدي، وبأعلى ما هو متاح من مقادير التمثيل الشعبي، وباستصحاب ضرورات الواقع. هذا منهج يعالج خطر المزالق المهلكة التي غالبًا ما تصاحب عملية انتقاء العناصر السياسية والتنفيذية.

إن أغلب تلك المزالق ناتج عن تقديرات انطباعيّة لشخص أو أشخاص قضى قدر البلاد وجود أسمائهم لدى بضعة أفراد في كابينة القيادة. ولا تزال عبرة أخطاء الابتداء في مثل هذا المنهج يتجرعها أهل البلاد، منذ أن أنتجت غيبوبة الدهر العناصر التي قادت البلاد عام 2019 وما بعده، والتي تظل آثارها ماثلة لمدى زمني لا نعرف منتهاه.

إن الخلل المنهجي الكارثي الذي صاحب اختيار قيادات تلك المرحلة كان هو الحدث المؤسس لمآلات البلاد الراهنة، فمنذ اليوم الأول لتسلم حمدوك رئاسة الحكومة، ظهر تسلط الكتلتَين: الأولى والثالثة المذكورتَين أعلاه.

وبدأ باطّراد يومي انزلاق البلاد وضياع سيادتها، واختطاف مصيرها، وتنمّر سفراء الكتلة الأولى من مكوّنات الحلف، وتحكمهم الكامل في رئاسة الحكومة، ليس فقط تمويلًا ورقابة وإشرافًا، ولكن أيضًا في صناعة السياسات الداخلية والخارجية. بل السعي الدؤوب النشط لوضع البلاد كلها تحت الانتداب الدولي، والنتيجة؛ أنّ اختيار حكومة تلك الفترة كانت نقطة الانكسار العظمى في تاريخ الدولة السودانية.

كان ذلك منتجًا تلقائيًا للخلل المنهجي في تخيّر القيادات، وحصر عملية الاختيار بين كيانات صغيرة أو أفراد نافذين خلف أبواب مغلقة، مشحونة دواخلهم بمحتوى مرتهن لإرادة الأجنبي.

منظومة شورية
إن المنهج الأوفق الذي يراه الكثيرون، هو السعة التمثيلية القاعدية بأعلى ما يمكن بلوغه، خاصة في ظرف البلاد الراهن. وإحلال فكرة القائد الواحد المتفرّد، أو نفر قليل – مهما كانت نزاهتهم مشهورة مذكورة-، بفكرة منظومة شورية واسعة القاعدة، تضع أسسًا موضوعيّة معيارية لاختيار القادة التنفيذيين، وإسنادهم حين يستقيمون على جادة البرامج التعاقدية التي تحكم أداءهم.. أو محاسبتهم حين الانحراف أو العجز، وتخييرهم حينها بين الاعتدال أو الاعتزال.

وبهذا فإنّ المنهج الذي يراه الناس أوفق لحالنا هو إنشاء مجلس تشريعي – استشاري، يتم انتخاب عضويته بالتفويض القاعدي المباشر لممثل أو ممثلين عن كل محلية في السودان، ثم ممن يمثلون القوات المسلحة، والقوات النظامية الأخرى بمن فيهم ممثلون لنفرة الإسناد الشعبي للقوّات المسلحة.. ثم يعزّز هذا المجلس بممثلين للقطاعات الوطنية الفئوية والمهنية المختلفة.

وتحظر عضويته على كل من ثبتت مشاركته في الحرب ضد الدولة وشعبها، قولًا أو فعلًا، أو من يحمل جنسية مزدوجة؛ لما ذكرناه آنفًا.

مهمة المجلس الاستشاري الانتقالي:

1- اعتماد دستور انتقالي لإدارة الدولة، بما في ذلك تحديد مدى الانتقال وواجباته. ولعل الأوفق اعتماد دستور 2005 مع إلغاء أو تعديل الموادّ التي تشير إلى القضايا التي تجاوزها الزمن، ولم تعد تخاطب اللوازم الموضوعية الراهنة.

2- إقرار قيادة القوات المسلحة للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك اعتماد القائد العام رئيسًا لمجلس السيادة الانتقالي.

3- وضع وإجازة المعايير الموضوعية والشروط المؤهلة اللازم توافرها في رئيس الوزراء وحكومته، وكل شاغلي المواقع الدستورية. والتيقن أولًا من وضوح الرؤية حيال السياسات الموجهة للبلاد في منعطفها الراهن، مع الرؤية المهنية المتخصصة لدى كل من يتسنّم موقعًا قياديًا ما، بمن فيهم رئيس الوزراء.

الرؤية القائدة يجملها استيعاب دون تغبيش أو تلجلج للأهداف والوسائل التي تنتهجها الكتل المكونة للحلف المنخرط في العدوان على السودان.

ثم التيقن ثانيًا من توافر رؤية برامجية جلية حيال جهاز الرئاسة، وحيال كل حقيبة وزارية.. رؤية علمية موجهة، قابلة للتحول إلى خطة، ثم للتحول من خطة إلى برنامج عمل تنفيذي يومي.

وليتذكر هنا الجميع كيف اكتشف الناس أن رئيس حكومة قحت – الذي أشيعت بكثافة قبل توليه جاهزيتُه للأداء السياسي والتنفيذي برؤية وخطه نهضوية علمية – قال بعد شهور: إنه خالي الوفاض من أي خطة، وإن أحدًا ممن جاؤوا به للرئاسة لم يسلمه رؤية أو خطة. حتى أدرك الناس جميعًا أن من جاؤوا به لم يعبؤُوا أصلًا ببرنامج قد يحدث قدرًا موجبًا في حياة السودانيين.

الكتلة الرئيسة الأولى للحلف المذكور، كانت هي صاحبة الرؤية والخطة. ورأينا كيف تولت أصالة بنفسها أو من خلال حلفائها في الكتلة الثالثة قيادة البلاد، بما في ذلك قيادة رئيس الوزراء نفسه.

الأمن والاقتصاد
4- في صدر مهام المجلس الاستشاري يقف اعتماد أعضاء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية، أو دمج الاثنتين في منظومة قضائية واحدة.

السلطة القضائية، والنيابة العامة، والقوات المسلحة، ومؤسسات ضبط القانون، هي الهيئات السيادية الوازنة والضامنة للممارسة المسؤولة، وهي الممسكة بمعايير حوكمة الممارسة السياسية، ويلزم تدخلها لتصحيح المسار كلما أطلت الفوضى وساد الاضطراب؛ كالذي شهدته البلاد وآل بها إلى وضعها الماثل اليوم.

5- رغم تزاحم القضايا في أجندة هذا المجلس الاستشاري، إلا أن بندَين لا يتصور إرجاؤهما يتوقع تصدرهما الأولويات القصوى: أما الأول؛ فهو الأمن ولوازمه الملحّة ومتعلقاته اللوجيستيّة.

وأما الثاني؛ فهو اعتماد منهج الاقتصاد الاجتماعي – التضامني الذي يحتلّ مكانًا تزداد مساحته في عالم اليوم. وقد أملت السياقات الظرفية إعادة هندسة الحركة الاقتصادية باعتماد قطاع اقتصادي ثالث يتوسط القطاع العام والقطاع الخاص، وهو القطاع المجتمعي – التضامني الذي يهدف لإدماج أكثر من عشرين مليون سوداني في دورة الاقتصاد الكلي.

فمعلوم أن أكبر غاشيات الحرب هو الدمار الشامل للبنية الأساسية والنظم الحاكمة لحركة الاقتصاد ورؤوس الأموال. كما أن الدولة لم تعد قادرة على خلق الوظائف وتسديد الرواتب؛ لأجل ذلك ينصرف الفكر الاقتصادي إلى تأسيس هذا النهج الاقتصادي القائم على المشروعَين: الصغير والمتوسط.

وفي عجالة كهذه يلزمني القول؛ إن هذا المنهج الاقتصادي لم يتأسس بناء على خاطرة طارئة أو متعجلة، بل هو تصميم “مُسَودَن” لخلاصة عشرات التجارب في عديد الدول. ويقيني ثابت بأنه الخيار العلمي – العملي الأكثر جدوى لانتشال ملايين الشباب التائهين اليوم في مهاوي اليأس.

غير أنه يستلزم لفاعلية نجاحه توافر شروط مؤسسية أربعة، يلزم من وجودها نجاحه ومن عدمها إخفاقه. أولها: شروط مفاهيمية – علمية. وثانيها: شروط سياسية وتشريعية وإدارية. وثالثها: شروط مالية. ورابعها: ما أسميته شرط المؤسسات الرديفة المساندة.. جميع ما ذكر يلزمه التفصيل المبين لجزئيّاته، وهو قابل للنفاذ مع وجود جهاز تنفيذي وتشريعي في البلاد لا يعرف التثاؤب ولا تكبّله كوابح الأنا.

6- يضطلع المجلس بكل مهام المجالس البرلمانية في العالم، وخاصة مهمة الرقابة على الجهاز التنفيذي من خلال اللجان البرلمانية النوعية، وصناعة النظم والقوانين الضابطة لجميع مسارب الحياة في السودان.

7- ولمقابلة واجبات صد العدوان -الأكثر إلحاحًا – على تنوعها، فإن مهام التعبئة الشاملة وحشد جميع موارد الدولة: المادية والبشرية، والصلبة والناعمة، والعسكرية والمدنية، يجب أن تتصدر أعمال المجلس كافة، وتستوعب جميع أعضائه.

واجبات ملزمة
8- ثلاث ركائز للحوكمة الفعالة، وهي قلب وعقل هذه المؤسّسات الضامنة والوازنة: صون وجود الدولة نفسها، ثم سيادة القانون المنظم للممارسة السياسية، ثم الرقابة اللصيقة للممارسة حتى لا تتهاوى في منحدر الانحراف.

9- إن أهم اللوازم التي ينبغي توافرها في عضوية هذا المجلس التشريعي – الاستشاري هو التجرّد من كلاليب الولاءات والرغائب الجزئية.. فواجبات النصر لا تقبل ثنائية الولاء.. فإن ما ترسخ من مضامين يقينية إيمانية لدى الجيش السوداني منذ تأسيسه كافٍ لتمثله في حربه الراهنة.

أردت بهذه المساهمة أن أطرح منهجًا موضوعيًا لمغالبة سياسية ذات عمق اجتماعي قاعدي كثيف، يمثل ركائز الإسناد التضامني الصلب للجيش السوداني وشعبه، وهما منخرطان في حرب حماية الوطن ودفع العدوان. وإذ أقول ذلك أدرك يقينًا أن أنسب النظم السياسية وأصلحها دائمًا هي تلك التي تنشأ بإرادة الشعوب، لتلبية مطلوباتها الوطنيّة، انطلاقًا من ركائزها القاعدية، متجاوزة التسلّط الفوقي لنخب شاع من تجارب الماضي القريب سهولة وسرعة قابليتها لرهن البلاد للأجنبي.

فتحرير الإرادة الوطنية يجسده انتقال التنافس الشريف من مزالق التسلط الفوقي والأجنبي إلى منطلقات العمل الوطني القاعدي، ولتأسيس إدارة حكومية تقوم على التعاقد البرامجي اللازم إنفاذه بين الطرفين المتعاقدين: الرئيس أو الوزير (طرف)، والشعب عبر برلمانه (طرف ثانٍ).

ولذلك تنتقل المشاركة السياسية من حق اختياري للجميع بمقتضى حق المواطنة، إلى واجب ملزم في ذمة كل فرد سوداني يمليه الظرف الاستثنائي الراهن. فالإحجام عن المشاركة اليوم ليس فقط إيغالًا في السلبية واللامبالاه، ولكنه أيضًا يجعل من صاحبه كأنه قبر متحرك. ولأجل نقل المشاركة من خانة حق يمكن تجاوزه إلى واجب يلزم أداؤه، تفرض دول عدة عقوبات جزائية على من يتقاعس عن المشاركة في الاقتراع العام حول القضايا الوطنية المصيرية.

الأميركيون والأوروبيون لا يعرفون من الممارسة الديمقراطية غير ما اعتادوه، ويرغبون في استزراعه قسرًا في مجتمعات لا يتناسب واقعها الثقافي والعقدي مع المضامين التي يضغطون في اتجاه تحققها. ورغم ذلك، يدّعون أن النظام السياسي يمكن تعليبه وتغليفه وشحنه وتوزيعه عن طريق وكالاتهم السياسية، ولا يرون فرقًا أو حرجًا معنويًا بين الوكالة السياسية وبين الوكالة التجارية المحكومة بعروض التجارة ومواثيقها المنظمة لها.

وبالأثر التراكمي لهذه العِلاقات العِمالتيّة، ترسخت عند وكلائهم فكرة أن الممارسة السياسية ليست إلا مصدرًا لكَنز المال، تمامًا كما الوكالة التجارية. لأجل ذلك كان الحرص الشديد في استدامة علاقات الوكالة “الزبائنيّة” بين الكتل الأربع التي تتساند اليوم باصطفاف جهير في حربها على السودان.

الخيرَ أردتُ.. ولكل امرئ ما اكتسب.. وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر.

Exit mobile version