بعد أكثر من مائة معركة منذ مايو/أيار الماضي، فشل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في حسم معركة مدينة الفاشر التي أصبحت أطول المعارك في حرب السودان المندلعة منذ 15 إبريل/نيسان 2023. ومدينة الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور المكون حالياً من خمس ولايات، هي واحدة من أهم المدن الاستراتيجية في البلاد. وخلال الحرب الحالية، تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على أربع ولايات من الولايات الخمس، وهي غرب دارفور وعاصمتها الجنينة، شرق دارفور وعاصمتها الضعين، وسط دارفور وعاصمتها زالنجي، جنوب دارفور وعاصمتها نيالا.
ووصلت مرحلة السيطرة عليها إلى تكوين إدارات مدنية فيها. أما في ولاية شمال دارفور فقد سيطرت قوات الدعم السريع على عدد من المدن والقرى مثل كتم وكبكابية ومليط وغيرها. ومع بدء الحرب، تمكن والي شمال دارفور نمر عبد الرحمن، مع زعماء القبائل، من عقد صفقة بين الجيش و”الدعم السريع”، امتنعت فيها الأخيرة عن مهاجمة مدينة الفاشر في مقابل بقاء الجيش داخل مقاره، مع التزام الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا الحياد، وذلك لضمان حقن دماء السكان والنازحين في المدينة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إليهم.
تطور معارك الفاشر
وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت حركات الكفاح المسلح، ومنها حركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بزعامة مني أركو ميناوي حاكم إقليم دارفور، وحركات أخرى صغيرة تخليها عن الحياد، والقتال إلى جانب الجيش، بسبب ما عدته انتهاكات مروعة لقوات الدعم السريع بحق المدنيين، وسلوكها المعادي للوطن. وألغى الموقف الجديد اتفاق الهدنة الذي رعاه والي شمال دارفور وزعماء القبائل، ما أدى إلى اندلاع المواجهات، وصولاً إلى فرض قوات الدعم السريع الحصار على الفاشر، للاستيلاء عليها لإلغاء آخر وجود للجيش في كامل إقليم دارفور.
وقوات الدعم السريع موجودة خارج مدينة الفاشر في مناطق مليط وكتم وكومة وأم كدادة وكبكابية، حيث مرابض مدفعيتها الثقيلة. وفي حالة الهجمات الكبيرة، فإن نقطة الانطلاق لهذه القوات عبر الناحية الشرقية، وقد توغلت أحياناً إلى داخل الأحياء القريبة، حيث دارت أعنف المعارك والاشتباكات المباشرة، وهي أحياء أخلاها سكانها، كما استخدمت “الدعم السريع” في غاراتها على المدينة الطائرات المُسيّرة لقصف أهداف عسكرية للجيش.
في المقابل، سيطر الجيش المدعوم من حلفائه على المدينة متمركزاً في مقر الفرقة 16، فيما انتشرت قوات الحركات المسلحة على حدود المدينة وطرقها وأسواقها، بالإضافة إلى الأحياء الغربية والجنوبية. غير أن خرائط السيطرة تبدلت مراراً، كما حصل خلال معارك يومي الخميس والجمعة الماضيين، وذلك لجهة حصول تقدم محدود لقوات الدعم السريع في الأحياء الشرقية. وهي الصورة التي سعى الجيش خلال الساعات الماضية لتعديلها بتمشيط تلك الأحياء، مستفيداً خلال معاركه من تدخل طيرانه الحربي لقصف تجمعات “الدعم السريع”.
ومع استمرار المعارك هناك التي خلفت أكثر من ألف قتيل ومئات الجرحى، ونزوح أكثر من نصف السكان، ظلّ من بقي في المدينة في أسوأ الظروف من نقص الغذاء ومياه الشرب النقية وانقطاع الكهرباء والاتصالات، وارتفاع أسعار السلع الضرورية، وذلك على وقع القصف المدفعي المتواصل على الأحياء المدنية وكذلك قصف الطيران. وفي يونيو/حزيران الماضي، تدخل مجلس الأمن، وعقد جلسة خاصة بشأن مدينة الفاشر، وأصدر القرار 2736، الذي طلب من قوات الدعم السريع وقف حصار الفاشر، والسماح لقوافل الإغاثة بالوصول إلى المتضررين. لكن “الدعم” لم تستجب للقرار وواصلت الهجوم على المدينة، ولم تنجح بعد في تحقيق هدفها، بينما واصل الجيش والقوات المتحالفة معه صد تلك الهجمات، من دون التمكن من فك حصار المدينة والقضاء على التهديد بالكامل.
في السياق، قال الخبير العسكري عمر أرباب إن الفاشر من المدن الاستراتيجية التي جعلت معركتها مصيرية للطرفين، خصوصاً للحركات المسلحة تحديداً، وللجيش وقوات الدعم السريع، لأنها آخر القلاع بالنسبة لإقليم دارفور، وسقوطها يعني عدم وجود أي مناطق تحت سيطرة الحركات المسلحة، ما يؤثر في دورها المستقبلي في أي عملية سياسية، لأن التفاوض يكون بالمناطق تحت السيطرة، لا سيما العمليات السياسية بعد الحرب. وأضاف أرباب لـ”العربي الجديد” أن ولاية شمال دارفور متاخمة لتشاد وليبيا، وبالتالي فإن حدودها مفتوحة وملاصقة لعدد من الولايات. ويعني ذلك تمهيد خطوط الإمداد الخارجية وتأمين خطوط الإمداد الداخلية وإمكانية الانفتاح على أكثر من منطقة، سواء الولاية الشمالية أو الخرطوم أو النيل الأبيض أو حتى المناطق في غرب كردفان مثل مدينة بابنوسة. وكشف أن تلك القضية من القضايا المهمة المصيرية للطرفين، لذلك يظهران استبسالاً وإصراراً، لا سيما جانب الدعم السريع لإحكام قبضتها عليها، ومن جانب الجيش والحركات المسلحة للدفاع عنها.
وأكد المتحدث الرسمي باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح الرائد أحمد حسين مصطفى “أنهم والجيش والمقاومة الشعبية تصدوا حتى الآن لـ133 هجوماً على الفاشر من قبل قوات الدعم السريع. وجاء ذلك التصدي بعزيمة وإرادة وإيمان بأن الحرب هذه ليست بين الجيش السوداني والدعم السريع، بل بين مليشيات الدعم السريع والمواطن السوداني”. وأوضح أن هدف المليشيات وإصرارها على إسقاط مدينة الفاشر نابعان من تنفيذ أجندات خارجية لبعض الجهات لفصل دارفور وبناء دولته الوهمية المزعومة، على حد وصفه، مؤكداً أن ذلك لم ولن يحدث. وأشار مصطفى إلى أن المعركة ستحسم قريباً، مؤكداً أنهم الآن في نهاياتها بعد كسر شوكة “الدعم السريع” تماماً، وتكسير قوتها الصلبة. وتوعد بأن تكون الفاشر نقطة الانطلاق لطرد المليشيا من كل مدن دارفور خصوصاً، ومدن السودان عموماً، مشيراً إلى وجود خطة لذلك، وستبصر النور قريباً.
تصدّي الجيش للهجمات
من جهته، قال العميد المتقاعد إبراهيم عقيل مادبو إن الجيش نجح في صد الهجمات عبر خطة دفاعية محكمة، تقوم على استغلال مزايا الدفاع النشط، والهجوم المضاد، واستثمار النصر، تحت غطاء نيران الطيران، واشتراك حركات الكفاح المسلح في المعركة. ورجح مادبو أن تزداد وتيرة الهجمات، بسبب أهمية الفاشر ضمن “الخطة ب” للمليشيا. ورأى أن قوات الدعم السريع مصرّة على الاستيلاء على الفاشر لأهميتها الجيوسياسية وتميزها بموقع استراتيجي، حيث يحدها من الشمال الغربي والغرب كل من ليبيا وتشاد، بجانب مجاورتها سبع ولايات سودانية ووجود طرق حيوية تربطها مباشرة مع أربع ولايات، وهي عاصمة لولاية شمال دارفور التي تعادل مساحتها أكثر من 57% من مساحة إقليم دارفور.
كما أن للمنطقة أهمية تاريخية ورمزية في وجدان مكونات المنطقة الاجتماعية، خصوصاً أبناء قبائل الزغاوة والمساليت والفور. وأضاف مادبو أن المدينة كانت قديماً ملتقى طرق للقوافل المتحركة بين وادي النيل وتشاد ومناطق دول الحوض التشادي، “وإذا سيطرت عليها المليشيا، فذلك يعني إكمال سيطرتها على دارفور، وخلق واقع جديد يتعزز فيه موقفها في أي مفاوضات مستقبلية، كما تزيد من تعقيد الوضع السياسي داخل السودان، وربما تؤدي إلى بروز وضع جديد أشبه بالسيناريو الليبي، وتكوين إدارة مستقلة في غرب السودان”.
وأكد مادبو أن كل المؤشرات والقراءات الآن تؤكد أن حسم معركة الفاشر سيكون بواسطة الجيش، وأن هذا الأمر مرتبط بقدرته وحلفائه على الصمود، وهذا يتطلب الحصول على أسلحة نوعية جديدة تغير مسار المعركة، لتعزيز سيطرته على ولاية شمال دارفور والتمدد نحو ولايات أخرى، مثل وسط وشرق وجنوب دارفور. كما أكد أن الجيش لن يسمح بسقوط الفاشر لخشيته من استهداف “الدعم السريع” السكان من الأصول غير العربية، وعودة المجازر التي ارتكبتها “الجنجويد” في السابق بحق أبناء القبائل الأفريقية، وسيكون لذلك تأثير جيوسياسي كبير، حيث تتحول شمال دارفور إلى ملاذ للمليشيات والمسلحين من القبائل العربية في منطقة الساحل الأفريقي، وسيؤثر ذلك في أمن دول تلك القبائل والأمن الإقليمي لأفريقيا، حيث ستُستخدم هذه المليشيات ضمن مشاريع دولية وإقليمية وتصفية الحسابات مع دول كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو التي أبعدت القوى الغربية وتحالفت مع روسيا، كذلك ستتأثر تشاد بدورها وتتفاقم الانتهاكات بحق المجموعات العرقية الأخرى. ولم يستبعد أن تقوم “الدعم السريع” ومن يقف خلفها بإعلان انفصال إقليم دارفور لحظة سقوط الفاشر، وهذا ما سيسعى الجميع لهزيمته.
أهداف الجيش والدعم السريع في الفاشر
من جهتها، أكدت قوات الدعم السريع، في بيان أخيراً، “عزمها على تحرير مدينة الفاشر وغيرها، واستكمال نضالات الشعب السوداني، ولن تخون خياراته المشروعة في التغيير والتحول الديمقراطي، وستمضي بقوة لإنهاء سطوة العصابة الفاسدة، وتحرير الجيش وإعادته لممارسة دوره القومي والمهني بعيداً عن السياسة”، وفق قولها. وفي أكثر من مرة وخلال المعارك في الفاشر، اتهمت “الدعم السريع” الجيش بشن غارات جوية على المدنيين، مثل ما حدث في قرية قرقف، شرق الفاشر، أخيراً، ما أدى إلى مقتل أكثر من 30 مواطناً وإصابة العشرات جراء قصف طيران ما تطلق عليه “مليشيا البرهان” (قائد الجيش عبد الفتاح البرهان) على الفاشر، وكذلك ما حدث في حي الثورة وحي فشار وسوق بالفاشر وسوق مليط، حيث لقي عشرات الضحايا مصرعهم وسط المواطنين جراء القصف الجوي، كما تعهدت بإدخال وحماية المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
أما المحلل السياسي عبد الحفيظ مريود، فرأى أن “الدعم السريع” ظلت تتحاشى خوض المعارك في مدينة الفاشر طوال فترة تمسك الحركات المسلحة بالحياد، لا سيما أنها كانت تتخذ من المدينة معقلاً، وسط اعتبار الدعم السريع أن معركتها ليست مع الحركات المسلحة. وأشار مريود لـ”العربي الجديد” إلى أن “دخول الحركات المسلحة الحرب إلى جانب الجيش الذى يقوده الإسلاميون من النظام السابق، ويحارب بهدف إعادتهم إلى الحكم، هو ما فتح الجبهة كلياً لمعارك طويلة”.
وقال مريود إن تجميع الحركات قواتها وإعلانها أنها ستتخذ من مدينة الفاشر منطلقاً لاستعادة السيطرة على دارفور من قبضة قوات الدعم السريع بالكامل جعلا الأخيرة تخوض معارك ضارية لتحريرها، مؤكداً أن “الدعم” وبعد أن كانت تعسكر خارج المدينة، تمكنت أخيراً من دخول المدينة، وسيطرت على 80% من مساحتها، وهذا أقرب ما يكون إلى الاستيلاء على قيادة الفرقة 16 من أي وقت مضى. وأوضح مريود أن “معركة الفاشر مثل أي معركة أخرى، أدت إلى خسائر لقوات الدعم السريع، لكن أنصار الجيش والحركات المسلحة ضخموها لإخفاء الهزائم المتلاحقة والتقدم الكبير الذي أحرزته الدعم السريع”، جازماً بأن المعركة ستحسم قريباً لصالح قوات الدعم السريع.
العربي الجديد