الهلالية .. وأخواتها .. عثمان ميرغني
الهلالية .. وأخواتها ..
بقلم : عثمان ميرغني
أدخلني والدي “سنة أولى” ابتدائي بمدرسة الهلالية الشرقية.. كنا نسكن الجنيد حي “أبو نورة”.. وفرت لنا ادارة مصنع السكر حافلة صغيرة تنقلنا للمدرسة ذهابا وايابا.
أول يوم دراسي بمدرسة الهلالية الشرقية.. المدرسة في أقصى طرف الهلالية .. يفصلها عن البيوت مساحة خالية..
في نهاية اليوم الدراسي الأول في “سنة أولى”.. خرجت من المدرسة وانتظرت مع أقراني وصول البص.. عندما وصل اختلط نابل “أولاد المصنع” مع حابل “أولاد الهلالية”.. السائق غضب وانتهر الجميع و وقف أمام باب الحافلة يختار من يركب..
وقفت بين التلاميذ انتظر دوري لكنه لم يراني.. أغلق الباب وصعد وانطلق بزملائي “أولاد المصنع” ووجدت نفسي وحيدا حينما ذهب “أولاد الهلالية” كل إلى بيته..
عمري 6 سنوات.. بعقل طفل لا يستطيع تقدير الأشياء ظننت أنني لو تتبعت مسار البص سأصل إلى البيت.. مسافة تتجاوز 20 كيلومترا.
بساقين صغيرتين و حقيبة قماش مدرسية تتدلى من كتفي بها بضعة كتب وكراسات مشيت مسافة إلى أن وجدت نفسي خارج الهلالية.. فضاء عريض ليس فيه حراك والبيوت بدأت تختفي عن نظري..
هنا فقط أدركت أنني في ورطة.. فلا وصلت بيتنا .. ولا بقيت في الهلالية.
جلست على صخرة صغيرة على جانب الشارع و بدأت أبكي بصوت عال.. لا يسمعني إلا السكون حولي.
مرت فترة من الزمن.. لوري قادم من جهة الهلالية.. رآني السائق و بجواره رفيقه فتوقف وسألني :
من وين انت؟
أجبته و أنا أواصل البكاء .. من مصنع الجنيد..
لو وصلتك المصنع بتعرف بيتكم؟
أيوه..
نزل من اللوري و حملني و أجلسني في الوسط بينهما ثم انطلق.
في الطريق لاحت من البعد سيارة صغيرة.. صرخت بأعلى صوتي:
دا أبوي..
سائق اللوري أخرج ذراعه وهو يشير يطلب من السيارة الصغيرة التوقف.
و فعلا كان والدي بعد أن تأخرت في العودة و سأل سائق بص المدرسة الذي أنكر أنه رآني..
أجمل “أيام الهلالية” كانت في الخريف.. كنا نصفق ونصرخ بنشوة عندما يصارع السائق الأوحال في الطريق وبالكاد يوصلنا قبل طابور الصباح.
في “فسحة الفطور” نخرج من الفصول يتجه “أولاد الهلالية” إلى بيوتهم القريبة للافطار والعودة قبل الجرس.. و نحن ” أولاد المصنع” نتجه إلى بائع السندوتشات جوار باب المدرسة.. نصف رغيف يحشوه بالطحنية.. لا ازال أجد حلاوة طعمه في فمي.
حتى الطحنية زمان كانت غير.. والرغيف.
الناظر “صلاح” أظنه من أبناء الهلالية .. مبتسم دائما..
أستلذ ” محمد” مدرس العربي .. نحيل الجسم كنا نحبه لأنه لا يستخدم السوط اطلاقا.. عكس استاذ الدين.
استاذ الدين نسيت اسمه .. حكيت لكم قصته عندما ضربني في حصة تسميع سورة “البَيّنة”.. كان يوم السبت وسقط مني سهوا في زحمة لعب الكرة يومي الخميس والجمعة ان احفظ السورة.
رغم السنوات لكني كلما مررت في المصحف بسورة “البينة” اتذكره. لماذا ضربني؟ ربنا قال لسيدنا موسى واخيه (قولا له قولا لينا..).. لفرعون وليس لتلميذ صغير.. لماذا لم يقل لي قولا لينا ؟ ويطلب مني الحفظ والتسميع في اليوم التالي؟
استاذ محمد “مدرس العربي” كان يخصص حصة يوم الاثنين ل” القصة” يحكي من كتاب يقرأه لنا قصة طويلةحتى نهاية الحصة.
البطولة المطلقة كانت ل”الثعلب”.. كنا نحبه لأن دمه خفيف وظريف رغم أنه مكار ومخادع.. و نكره الذئب لأنه باطش وظالم.. و نحب نبل الاسد وطبعه الملكي الرفيع.. رغم أننا ناخذ عليه تساهله مع الثعلب الذي ينافقه و يتحفه بخدمات خارخ نطاق التغطية.
في يوم “اثنين” ماطر تأخرنا في الطريق خلال مصارعة الأوحال.. وصلنا وجدنا استاذ محمد أغلق الباب و منع دخول المتأخرين.. كان صعبا أن نضيع حصة القصة الاسبوعية.. ذهبنا للناظر صلاح في مكتبه.. بابتسامة ينهض و ذهب معنا وطرق باب الفصل واستأذن استاذ محمد أن يسمح لنا بالدخول.. و دخلنا.
في يوم بائع سندوتشات الطحنية تغيب عن حضوره المعتاد..
ذهبنا إلى مطعم في سوق الهلالية.. أول مرة في حياتي ادخل مطعما.
رفاقي يعلمون بروتوكولات المطعم.. بعد أن يفرغ الصحن من الفول و لا تزال بقية من الرغيف.. نصفق ونطلب حضور الجرسون ونقول له بملء فمنا (وصلة)!!
الـ”وَصَلة” هي منحة فول اضافية مجانية بقصد اكمال ما تبقي من “الرغيفة”.. و لايحق لك أن تطلب وصلة رغيف..
أيام الهلالية غضة خضراء جميلة .. إلا يوم النتائج.. و ما أدراك ما يوم النتائج.
في برتوكولات التلاميذ إذا غضب من زميله يتوعده ( اصبر يوم النتآئج)!
الحسابات الشخصية لا تُصفى أولا بأول.. لأن الطرف الآخر سيشتكي للمدرس وسيكون العقاب مؤلما في طابور الصباح أمام جميع تلاميذ المدرسة.
أما في “يوم النتائج ” فالحصانة توفرها العطلة المدرسية الطويلة لثلاثة أشهر متصلة.. الشكاوي تسقط بالتقادم خلال العطلة.
بعد إعلان النتائج خرجنا من المدرسة.. تحلّق التلاميذ حول حلبة زميل من الهلالية كان يصفي حساباته مع زميل من المصنع.
زميل الهلالية يلعب في ملعبه بين جمهوره.. أما زميلي وصديقي العزيز “حسين” من أولاد المصنع كان في وضع لا يحسد عليه.. اللكمات والصفعات ثم الرمي على الأرض و سكب التراب على وجهه كل ذلك أمام أعيننا وحسرتنا دون أن نتدخل.. ما أشبه اليوم بالبارحة.
بنيتي الجمسانية لا تسمح لي بنجدة صديقي “حسين”.. ظللت طوال سنوات دراستي من سكان “الكنبة الأولى” في مقدمة الفصل أحب السلام وأكره صراعات التلاميذ.
كان ذلك آخر يوم لي في مدرسة الهلالية الشرقية.
في العام الدراسي التالي انتقلنا لمدرسة مصنع سكر الجنيد.
ودعنا زملاءنا “أولاد الهلالية” .. واستبدلناهم بـ”أولاد ود السيد” و “أولاد البويضاء”.
لكم الله يا أهلنا في “الهلالية” و “ود السيد” و “البويضاء” و”الكديوه” و”العك” و”برنكو” وبقية العقد النضيد..
لابد لليل أن ينجلي .. ولابد للقيد أن ينكسر..
سرد رائع يا أستاذ باشمنهدس عثمان ميرغني لا فض فوك
وندعو معك الله لأهلنا في الهلالية واخةاتها ان يقيل عثرتهم وأن يخلصهم من هؤلاء الأوباش قاتلهم الله