عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بقوة شعبية أكبر مما لم يتحقّق لرؤساء كثيرين تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة بتفويض شعبي مبهر، لم يكن مثيراً للدهشة فقط، وإنما باعثاً لكثير من القلق والمخاوف في العالم، وفي أميركا نفسها، بما تعنيه هذه العودة من تهديد حقيقي لأسس الديمقراطية الأميركية، وتشجيع لليمن الشعوبي في العالم، ومن دفع العالم نحو حكم الأنظمة الأوليغارشية العنصرية والفاشية التي يحمل ترامب وعديدون من مسؤولي إدارته المقبلة الذين أَعلن عن تعيينهم ضمنها، مخاطر تجسيدها خلال الولاية الثانية المتوقّع أنها أكثر خطورة بكثير من ولايته الأولى.
أهم من عودته أن حجم انتصار الرجل المخيف يثير الدهشة في جميع العالم، بفوزه بالولايات الرئيسية بما فيها تلك المتأرجحة، وسيطرته على مجلسي الشيوخ والنواب، ما يمنحه صلاحيات لا حدود قانونية أو سياسية أو أخلاقية لها، خاصة بعد حصوله على ثقة أغلبية الأصوات الشعبية، بالرغم من عنف تصريحاته، وأكاذيبه المتكررة، ونكساته القضائية، وتجاوزاته القانونية، وكرهه للنساء، وعنصريته الفجة، وأنانيته المفرطة. فإما أن أغلبية الناخبين لم يأخذوا هذه الاتهامات على محمل الجد، أو أنهم كانوا على علم بها تماماً، ولكنهم لم يهتموا بها بسبب درجة اليأس من تغيير واقعهم المعيشي التي دفعتهم إلى أن يروا فيه تجسيداً لحل مشكلاتهم وهمومهم اليومية.
لقد كان فوز ترامب انتصاراً انتقامياً بامتياز للشخص قبل المرشّح، ستكون له عواقب سياسية واجتماعية ودبلوماسية وبيئية، وحتى ديمقراطية، ما يدعو إلى القلق، وهو ما يتردّد صداه في أكثر من مكان ، مع وجود خطر قائم بشكل متزايد: إغراء التطرّف اليميني الشعبوي. لأن اختيار أكبر ديمقراطية في العالم لزعيم شعبوي يشكّل تهديداً للعالم ليس فقط لتورّط الولايات المتحدة في إدارة الشؤون العالمية، بل أيضاً لأن أنظمة سلطوية كثيرة في العالم قد ترى في ترامب وطريقة حكمه نموذجا يُحتذى ويبرّر أساليب حكمها الاستبدادية.
من غير الممكن توقع مواقف ترامب وتصريحاته وقراراته، وواضحٌ صريح، لأنه يعبّر عما يفكر فيه ويقول ما يؤمن به وينفذ ما يهدّد به
أولى مؤشّرات الخطر الداهم الذي يجسّده ترامب هي التي حملتها التعيينات الأولى في حكومته المقبلة التي ستضم فريقاً من المتطرّفين، كل في مجال تخصّصه، المهارة الوحيدة المطلوبة منهم هي الولاء الذي لا يتزعزع لرئيسهم وعرّابهم، يتنافسون في قلّة الخبرة وعدم الكفاءة وفي صخب (وعنف) التصريحات المستفزّة والمفزعة التي سيكون لتجسيدها على أرض الواقع عواقب وخيمة بل مخيفة.
الكل متخوّف من زلزال ترامب الذي يهدّد بالضرب بقوة. داخل أميركا يتنامى التخوّف من تقويض الديمقراطية الأميركية من الداخل، ومن زعزعة حكم المؤسّسات، خاصة أن ترامب تعهد بالانتقام من كل أعدائه أشخاصاً خاصمهم لأنهم حاربوه أو حاكموه، ومؤسّسات ناصبها العداء لأنها لم تنتصر له في كثير من معاركه التي لا يفتأ يفتح جبهاتها الواحدة تلو الأخرى. وفي أوروبا لا يتخوّفون فقط من العلاقات الغامضة التي تربط ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتداعياتها على الحرب الروسية الأوكرانية التي ستخرُج منها أوروبا بأكبر خسارة تتكبّدها منذ الحرب العالمية الثانية، وإنما أيضا من صعود اليمين المتطرّف الذي سيجد في ترامب أكبر حليف وسند له للوصول إلى السلطة في أكثر من دولة أوروبية. وعلى مستوى أزمة الشرق الأوسط، ما ينتظر هذه المنطقة سيكون الأخطر، لأن فريق حكومته يتكوّن من مجموعة من المتطرّفين الذين يتباهون بموالاتهم وتأييدهم المطلق لإسرائيل ولسياسات حكومتها الفاشية والمجرمة.
اليوم، وبعد إعادة انتخاب ترامب، رئيسا للولايات المتحدة، على العالم أن يتعايش من جديد مع تقلبات مزاج رئيس مصاب بمتلازمة اضطراب الشخصية النرجسية، رجل غامض بدرجة مخيفة، وواضح وصريح إلى درجة مستفزّة. غامضٌ لأن من غير الممكن توقع مواقفه وتصريحاته وقراراته، وواضحٌ صريح، لأنه يعبّر عما يفكر فيه ويقول ما يؤمن به وينفذ ما يهدّد به. رجل صاخب، عنيد، عنيف، بذيء، فوضوي، متقلب، وفاقد للأهلية، يُكثر من ارتكاب الأخطاء، وهذه كلها صفاتٌ جاءت على لسان مستشار ترامب السابق وعقله المدبر، ستيف بانون، قبل أن يتخاصما وتفترق بهما السبل، نقلها عنه مايكل وولف في كتاب “نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض” الصادر عام 2018.
داخل أميركا يتنامى التخوّف من تقويض الديمقراطية الأميركية من الداخل، ومن زعزعة حكم المؤسّسات
المتفائلون بولاية ترامب الجديدة، ومن يرحّبون بعودته، حجتهم أنه في فترة ولايته الأولى، بين 2016 و2020، لم يورّط بلاده في أية حرب كبيرة، لكن الذاكرة ربما تخونهم، أو لا يريدون أن يتذكّروا سياسات هذا الرئيس العنصرية ضد المهاجرين، عندما كان يحتجز أطفالهم ونساءهم في المطارات في انتظار ترحيلهم، كما يريدون منا أن ننسى قرار حظر السفر على مواطني عدة دول إسلامية فقط بسبب دينهم ولون بشرتهم، من دون أن ننسى دعمه وحمايته الأنظمة الدكتاتورية والسلطوية والفاسدة في العالم وتشجيعها على المضي في سياساتها القامعة حرّيات شعوبها والناهبة خيرات بلدانها. أيضاً، لا ينبغي أن تغيب عنا مواقفه الخطيرة التي تستهين وتقلل من مخاطر التغيير المناخي وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، ناهيك عن تصريحاته المهينة للمرأة والأقليات، ومواقفه المعادية أغلب المنظمّات الدولية والإنسانية، وانسحابه من بعضها ووقف تمويل بعضها ومهاجمتها كلها بلا استثناء، بما فيها منظمة الأمم المتحدة التي عيّن ممثلة حكومته داخل أروقتها امرأة تكنّ لها كل العداء وتتّهمها بمعاداة السامية!
وأخيراً، وليس آخراً، موقفه المساند بلا شروط لإسرائيل التي كان أول رئيسٍ ينقل عاصمة بلاده فيها إلى القدس، ويعترف بسيادتها على الجولان المحتل، ويفرض تطبيع علاقاتها، بدون شروط، على أنظمة عربية رجعية. وتأسّف في حملته الانتخابية لأن حجم إسرائيل الجغرافي أصغر مما ينبغي، ما يحمل، في طياته، إشارات خطيرة على تأييده مستقبلاً توسع الاستيطان في الضفة الغربية وغزّة، وربما ضمهما لاحقا، وتشجيع المتطرّفين الإسرائيليين على توسيع احتلالهم جنوب لبنان وجنوب غور الأردن، وربما داخل الأراضي السورية التي قال الوزير اليميني المتطرّف بتسلئيل سموترتيش إن حدود دولتهم المزعومة تنتهي عند مشارف عاصمتها دمشق… لقد مثّلت كل هذه السياسات، ومواقف وتصريحات أخرى صادمة ومستفزّة صدرت عن الرئيس ترامب خلال شغله منصب رئيس أميركا، في ولايته الأولى وفي أثناء فترة حملته الانتخابية أخيراً، كابوسا أزعج دولاً كثيرة وأقلق شعوباً كثيرة، وفي انتظار تنصيبه رسمياً رئيساً لأقوى بلد في يناير/ كانون الثاني المقبل، يحبس العالم أنفاسه خوفاً مما هو آت. فهل يكون ترامب الثاني مختلفاً ولو قليلاً عن ترامب الأول؟ وفي أي اتجاهٍ سيكون هذا الاختلاف؟
على انوزلا
العربي الجديد