في عهد ملوك الطوائف بالأندلس، عام 467 هـ، وثب قاطع طريق يدعى الحكم بن عكاشة على مدينة قرطبة واستولى عليها انتزاعاً من يد الظافر بن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، بعد أن ذبحه واحتز رأسه، وذلك بدعم المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة.. وكانت تلك هي المرة الأولى يسيطر قاطع طريق على حكم إمارة من إمارات المسلمين!.. بل على حاضرة الأندلس كلها!!.
وفي الخرطوم، يوم الجمعة الماضية، أعلنت مليشيا الدعم السريع عن تكوين، ما وصفته بـ (سلطة مدنية) لإدارة ولاية الخرطوم!!.. وسمّت المدعو عبد اللطيف الأمين الحسن رئيساً للإدارة المدنية!!.. هكذا على طريقة ابن ذي النون وابن عكاشة، صار قاطع الطريق حاكماً على حاضرة السودان كله!!..
بقي أن نذكر، من قصة ابن عكاشة وابن ذي النون، أنهما لم يهنآ بقرطبة مدة طويلة، فما لبث أن خرج ابن ذي النون منها جثة هامدة، بعد أن لقي حتفه على نحو غريب!!.. ولم يتأخر مصير ابن عكاشة كثيراً عن مصير صاحبه ابن ذي النون، فما لبثت جيوش إشبيلية أن رجعت إلى قرطبة واحتزت رأس ابن عكاشة وعلقت جثته على أسوار المدينة!!.
أنهاك لا أنهاك واحدة **** عن نومة بين ناب الليث والظفر
أبيات الوزير ابن عبدون هذه، صدقت في ابن عكاشة، وستصدق في هؤلاء التعساء الذين رهنوا أنفسهم للتعاون مع المليشيا ضد شعب السودان، وسيأتي اليوم يجدون أنفسهم في موقف ابن عكاشة!!.
ليس غريباً على المليشيا أن تخطو هذه الخطوة، وهي تحاول أن تثبت للناس ما تدعيه من سيطرتها على أغلب أراضي السودان، بما فيها عاصمته، وتريد أن تقول للناس أنها الحاكم الحقيقي على الأرض!.. ليس غريباً عليها أن تقوم بهكذا أفعال دعائية، خصوصاً بعد الاجتياح الكبير الذي ينفذه الجيش على مواقعها في العاصمة القومية، وبعد سقوطها في كثير من الولايات، مثل سنار، وهزائمها المتلاحقة في الفاشر، إيذاناً بداية أفول نجمها في البلاد.. ليس في العاصمة وحدها بل في ولايات أخرى، مثل ولاية الجزيرة، لجأت المليشيا إلى هذه الخطوة من أجل رفع الروح المعنوية لجنودها المنهزمين!!.. ولتقول للعالم أنها ما زالت بعافيتها، وأنها قادرة على إدارة السودان!!..
و لكن الغريب هو أمر الحمقى الذين يتجاوبون مع هذا العبث، من المدنيين المتعاونين مع المليشيا، فيعمدون إلى توريط أنفسهم في تلك المآزق الخطرة، مثل هؤلاء البائسين الذين تحملوا أحمال سلطة المليشيا الإدارية، والجسم الآخر الذي أنشأته باسم (مجلس التأسيس المدني)، وقالت إنه يضم أشخاصاً يمثلون مناطق الخرطوم الثلاث، بجانب قطاعات المرأة والشباب والإدارة الأهلية والمهنيين والطرق الصوفية!.. هل يعي هؤلاء ماذا يفعلون؟!.. أم أنها نشوة المناصب و المخصصات وشهوة السلطة، حتى لو كان وهماً وسراباً خلّبا؟!..
و العجيب أن رأس السلطة المزعومة، بدأ بالفعل في تقمُّص الدور، و أطلق مناشداته للمهنيين والفنيين والعاملين بولاية الخرطوم للعودة لتحمل مسؤولياتهم وتقديم الخدمات للمواطنين!!..يريد من هؤلاء المواطنين الذين أفلتوا بأنفسهم من الحياة تحت إرهاب المليشيا و انتهاكاتها التي لا تقف عن حد، يريد منهم أن يعودوا، وما كانوا ليعودوا فيها بعد إذ أنجاهم الله منها!!..
و كان أجدر بصاحب السلطة هذا قبل أن يطلق نداءاته حول الخدمات في سلطته المزعومة، كان أجدر به أن يجيب على السؤال الملح عند كل مواطن يرزح تحت نير المليشيا، هل يقدر صاحب السلطة هذا على توفير أهم خدمة وألزمها للمواطن؟.. يقدر على توفير الأمن!!.. هل يقدر على تأمين المواطن ضد انتهاكات الدعم السريع؟.. ضد اقتحام المسلحين بيته ليلاً وترويعه هو حريمه وعياله الصغار وانتهاك حرماته و انتهاب ممتلكاته؟!.. هذا ما ظلّت تفعله عناصر المليشيا الذين ما تركوا بيتاً إلّا واقتحموه وسطوا على ما فيه؟!..
هل لدى هذا الرئيس المزعوم صلاحية إعادة هؤلاء الذين دعاهم، من المهنيين والعمال، للعودة لتقديم الخدمات، هل يملك أن يعيدهم إلى بيوتهم التي استوطنها شذاذ الآفاق الذين جاءت بهم المليشيا من أصقاع الدنيا، واعتبروها ملكاً لهم بوضع اليد، وعلى سبيل غنائم الحرب؟!!.. هل يقدر على زحزحة واحدٍ من هؤلاء المرتزقة المليشيين عن موضع استقر فيه، أو أن ينزع منه سيارة انتهبها ليعيدها لصاحبها الذي يريد منه العودة إلى العمل؟!..
صاحب السلطة هذا أعجز من أن ينفذ أمراً أصدره على أقل مليشي مرتزق جاء من نواحي تشاد أو إفريقيا الوسطى..إنها سلطة دعائية، مثلها مثل أحاديث المستشارين الكذوبين على شاشات القنوات الإخبارية!..
إن المرء ليعجب، كيف يتسنى للمليشيا أن تتحدث عن سلطة إدارية و تقديم خدمات للمواطنين، هي قد أعلنت الحرب عليهم، وبل شنتها عليهم بالفعل، حين أطلقت كلابها المسعورة على قراهم الآمنة، نهباً و تقتيلاً و انتهاكاً للأعراض، تحت سمع وبصر العالم دون أن يرمش لها طرف، أو حتى تحاول ترد عنها وصمة التوحش!!.. وهل يكترث أحد للخدمات وهو لا يأمن على نفسه ولا على اولاده.. وعند المرور بأي ارتكاز من ارتكازات الدعم السريع لا يدري هل يعبره حيّاً، فضلاً عن أن يعود بماله ومتاعه!!.. أية خدمات والحقوق مستباحة؟!..لا غذاء ودواء في مناطق سيطرة الدعم السريع.. يستولون على شحنات الخضار و شحنات المحاصيل، ويقطعون الطريق على عربات البضائع، إما أن يدفع أصحابها الملايين لشذاذ الآفاق هؤلاء، وأما أن تستلب منهم عرباتهم ببضائعها.. الناس في فقر مدقع والأسعار يناطح لهيبها العنان!.
و إذا كان حتى القادة العسكريون، الذين ليس لديهم سند قبلي من حواضن الجنجويد، لا يستطيعون إنفاذ قراراتهم وبسط سلطتهم على من هم تحت قيادتهم من الفصائل، مثلما كان الحال مع أبي عاقلة كيكل قبل انشقاقه عن المليشيا وانضمامه للجيش، فكيف لمدني أعزل جيئ به ليكون مجرد ديكور، أن يدير سلطة، ويصرف أعمالاً في ولاية بكاملها؟!.. لقد كتب هؤلاء الأغبياء أسماءهم في سجلِّ الخائبين، و تقلدوا وصمة تلاحقهم أبد الدهر، هذا فضلاً عمّا ينتظرهم عندما ينهار بنيانهم الذي بنوه على شفا جرف المليشيا الهارِ.
أحمد غباشي