لا يشبهوننا: سقوط خطاب الداعية العنصري باسم الدين في السودان
_ عبد المنعم همت _
الشيخ عبدالحي يوسف، الذي اشتهر بخطاباته المثيرة للجدل، يعيد طرح إشكاليات عميقة تتعلق بالهوية والدين والسياسة في السودان. في أحد مقاطعه المرئية، تحدث عن فصل جنوب السودان مبررا ذلك باختلافات في العقيدة والتكوين الإثني، مختزلا الموضوع بجملة تنضح بالعنصرية “لا يشبهوننا”. في هذه العبارة، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تتجلى تعقيدات فكرية وسياسية تعكس تناقضات حادة في مشروعه الأيديولوجي ورؤيته للعالم.
هذا التبرير يعكس أول تناقض واضح في أطروحة عبدالحي. ففي أدبيات الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها، لا يُعتَرف بمفهوم الدولة الوطنية بل يُنادى بمفهوم الأمة الإسلامية، الذي يُفترض أن يتجاوز الحواجز الجغرافية والإثنية. ومع ذلك، نجد عبدالحي يعيد إنتاج خطاب قومي ضيق، يقوم على الإقصاء والتمييز العرقي. تناقضه يتجلى أيضا في موقفه من قول الله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. فهو بهذا التوجه يناهض صراحة هذه القيم القرآنية، مقدما معيار اللون والشكل على التقوى كميزان للتفاضل.
تناقضه الثالث يظهر في وصفه لإخوانه في جنوب السودان بأنهم “لا يشبهوننا”. وهو قول يعكس نزعة استعلائية تتناقض مع مبادئ الإسلام، التي لا تعرف الحدود العرقية. المفارقة هنا تكمن في أن عبدالحي نفسه يعيش في تركيا، بين قوم يختلف عنهم عرقيا، وينتمي إلى تنظيم إخواني يضم جنسيات متنوعة. هذه الازدواجية تكشف عن خلل عميق في منظوره الفكري، الذي يبدو انتقائيا وموجها بما يخدم مصالحه الخاصة.
لقد كان فصل جنوب السودان نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الخاطئة التي مارستها الحكومات المتعاقبة في الخرطوم، والتي تبنت خطابا إسلاميا متشددا وسلطويا. المنظمات والتنظيمات الإسلامية، وعلى رأسها تنظيم الإخوان، أنفقت أموالا طائلة لمحاولة بناء قواعد في الجنوب. لكن هذه المحاولات لم تكن مدفوعة بإرادة حقيقية لنشر الإسلام كدين للسلام والعدالة، بل كانت تخضع لأجندات سياسية تستغل الدين كأداة للسيطرة. عندما فشلت هذه الجهود في تحقيق أهدافها، تم تبرير هذا الفشل بطريقة سطحية تُرجِع المشكلة إلى الاختلافات الإثنية والعرقية، وكأنها حقائق ثابتة غير قابلة للتجاوز.
لقد رفع الإخوان شعار الحرب الدينية ضد الجنوبيين، وشنوا حملات قمعية أدت إلى إحراق أراض وتشريد سكانها. ورغم ذلك، استمروا في تقديم الإسلام كمنظومة قسرية تعكس فهمهم المتطرف له، وليس كدعوة تقوم على الرحمة والمحبة. هذا الفشل الذريع كان نتيجة منطقية لسياسة لا ترى في الآخر سوى عدو يجب إخضاعه بالقوة، متجاهلة الحاجة إلى بناء جسور من التفاهم والحوار.
عبدالحي، كغيره من دعاة التيار الإسلامي المتشدد، يؤمن بأن القوة هي الحل الوحيد للقضايا، حتى لو أدى ذلك إلى نسخ عشرات الآيات القرآنية التي تدعو إلى السلم والمحبة. هذا النهج يُظهر تجاهلا تاما للتعددية الثقافية والدينية التي تُعد جزءا أصيلا من تركيبة السودان. إن تقزيم أزمة الجنوب في مجرد “اختلاف الألوان” هو محاولة لتبسيط قضية معقدة وتحويلها إلى مسألة سطحية، وهو ما يعكس إفلاسا فكريا وأخلاقيا.
المفارقة الكبرى في حياة عبدالحي هي أنه يعيش في دولة علمانية، توفر له الحريات التي يرفضها في بلده. هذا التناقض يكشف زيف ادعاءاته ومحدودية رؤيته. فهو يهاجم العلمانية في خطاباته، لكنه يعتمد عليها لتأمين معيشته وحريته. هذا النوع من الدعاة لا يمثل الإسلام كدين، بل يعبر عن أيديولوجيا مسيسة تسعى إلى الهيمنة والسيطرة، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ الإسلامية الحقيقية.
السودان اليوم يحتاج إلى مراجعة شاملة لفهمه للإسلام ودوره في الحياة العامة. الإسلام الذي يدعو إلى السلام والعدل لا يمكن أن يُختزل في خطاب إقصائي يقوم على التمييز. ما نحتاجه هو رؤية تتجاوز هذه التناقضات وتضع الإنسان، أيا كان لونه أو دينه، في قلب المعادلة. الإسلام ليس مشروعا سلطويا، بل هو رسالة تسامح ومحبة، وهذه هي القيم التي يجب أن تستعاد في الخطاب الديني والسياسي على حد سواء.