حرب السودان… كيانات متنافرة تضعف الدولة وتحيي شبح التقسيم

بعد أكثر من 19 شهراً من حرب السودان المتواصلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، لا تلوح في الأفق أي حلول سياسية لإنهاء الصراع المدمر الذي أدى إلى موجات نزوح ولجوء من الأكبر في العالم، وبينما تستمر الأزمة وحالة الانسداد تحذر دوائر محلية وإقليمية ودولية من تفكك الدولة، وسط تشكل كيانات متعدّدة ومتنافرة أعادت إلى الواجهة سيناريو التقسيم الذي شهدته البلاد قبل 13 عاماً وانتهى بانفصال جنوب السودان حاملاً معه 10 ولايات نتيجة لحرب استمرت نحو 20 عاماً. وقال رئيس الوزراء السوداني السابق رئيس تنسيقية “تقدم” (تحالف سياسي) عبد الله حمدوك في خطاب بمناسبة مرور عام على حرب السودان في 14 إبريل/نيسان الماضي، إن البلاد تواجه خطر الانقسامات على أسس إثنية وعرقية، ما يهدد بالانهيار الكامل.

حرب السودان مستمرة
كما كان الرئيس السابق للبعثة الأممية لدعم الانتقال السياسي في السودان “يونيتامس” فولكر بيرتس قد قال في حوار مع مجلة زينيت الألمانية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنه لا يمكن استبعاد أن تستمر حرب السودان لفترة طويلة وتنتهي بتقسيم فعلي للبلاد. وأضاف “هذا ليس في مصلحة السودان ولا ينبغي أن يحظى بدعم دولي، ومن المحتمل أن الأطراف المتحاربة تتّبع استراتيجية الاحتفاظ بجزء من البلاد على الأقل لنفسها، وربما تكون النتيجة دولة غير ساحلية أخرى في المنطقة، وهي دارفور على وجه التحديد”. وحذر فولكر أن من شأن استمرار حرب السودان وهذا السيناريو أن يؤدي إلى مزيد من تجزئة البلاد إلى مناطق سلطة لمختلف أمراء الحرب والمجرمين والقوى السياسية المتطرفة، وقد تؤدي التجزئة إلى خلق ممر لعدم الاستقرار يمتد من مالي إلى البحر الأحمر، وربما لا يكون المجتمع الدولي على دراية كافية بهذه التطورات، وإلا فإنه ربما سيولي المزيد من الاهتمام للسودان.

ولايات سودانية خارج سيطرة الحكومة
ولا تقع العديد من ولايات السودان حالياً تحت سيطرة الحكومة المركزية التي تدير أعمالها من مدينة بورتسودان شرقي البلاد بعد تعطل العاصمة الخرطوم نتيجة المعارك التي بدأت من هناك. ويقع جزء من ولاية جنوب كردفان (جبال النوبة) تحت سيطرة الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، بينما تسيطر حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور على منطقة جبل مرة في دارفور غرب السودان، وباتت قوات الدعم السريع تسيطر على أربع ولايات في دارفور وجزء من ولايتي الجزيرة والخرطوم.

قبل حرب السودان الحالية، وبعد اندلاع الحرب بين الحركة الشعبية التي يقودها عبد العزيز الحلو والحكومة المركزية في العام 2011، أعلنت الحركة تأسيس “السلطة المدنية للسودان الجديد” في مناطق سيطرتها في ما تطلق عليه “إقليمي جبال النوبة والفونج الجديدة” وأجازت قوانين لتنظيم عملها. ويتكوّن الجهاز التنفيذي لسلطتها من رئيس ونائبين، وسكرتير أول وإحدى عشرة إدارة على رأس كل واحدة سكرتير، إلى جانب جهازين قضائي وتشريعي. وقال عبد العزيز الحلو في ندوة بعاصمة جنوب السودان جوبا، في يناير/كانون الثاني 2024، إن الحركة لن تتخلى عن مشروع السودان الجديد لمعالجة المشكلة السودانية، “وهي التنظيم السياسي الوحيد الذي يمتلك رؤية حقيقية وصحيحة قادرة على معالجة إشكالات الدولة السودانية من جذورها”. وأضاف أن النخب التي حكمت السودان أرادت أن تطبّق نظرية بوتقة الانصهار “ولكننا رفضنا ذلك وطرحنا نظرية الوحدة في التنوع وهي ما يمكن أن يحافظ على وحدة البلاد”. ‎ولم يستبعد الحلو أن تتقسم البلاد إلى عدة دويلات في حال عدم تدارك القوى السياسية للوضع ومخاطبة جذور المشكلة، في ظل حرب السودان.

في ظل حرب السودان الحالية تسيطر حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور على منطقة جبل مرة في ولاية وسط دارفور، وقررت في التاسع من أغسطس/آب 2023 تكوين سلطة مدنية في مناطق سيطرتها التي تسميها “المناطق المحررة”، وتضم السلطة رئيساً و13 عضواً يمثلون مؤسساتها. وقال رئيس السلطة المدنية للحركة مجيب الرحمن الزبير، في خطاب خلال تكوين سلطة فرعية في مدينة دربات شرق جبل مرة في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إنهم لم يشعروا بطعم أي خدمة وتعرضوا للظلم في السودان منذ العام 1956 (تاريخ الاستقلال). وأشار إلى أنهم عندما طالبوا بالتعليم والخدمات قيل لهم إنها لن تكون إلا لمن حمل السلاح، لذلك اضطروا لحمله “لإحداث التغيير الجذري في بنية الدولة السودانية التي لم تُبنَ بعد، وجاءت شخصيات وتنظيمات من اتجاهات معينة وسرقوا إرادة الشعب”.

وفي تحركات مناوئة للحكومة المركزية التي يقودها الجيش، قررت قوات الدعم السريع تكوين إدارات مدنية في عدد من مناطقها سيطرتها في ولايات دارفور الأربع وولاية الجزيرة وسط البلاد، وتقوم هذه السلطات بإصدار القرارات وجمع الجبايات من التجار والمزارعين، ومحاولة تشغيل المستشفيات وأقسام الشرطة. ومع استمرارا حرب السودانأعلنت “الدعم”، في 28 نوفمبر الماضي، تشكيل إدارة مدنية في الخرطوم برئاسة عبد اللطيف عبد الله، وتسمية مجلس تأسيسي من 90 عضواً. واتهم ممثل الدعم في مؤتمر إعلان الإدارة الجديدة حسن الترابي، الحكومة المركزية باختطاف العاصمة والذهاب بها إلى بورتسودان، وأضاف أن الخرطوم ستبقى هنا.

كيانات تعزز التقسيم
ورأى الكاتب والمحلل السياسي مجدي عبد القيوم أن هناك فرقاً كبيراً بين السلطات المدنية المشكّلة في مناطق نفوذ الحركة الشعبية في جبال النوبة، ومناطق حركة عبد الواحد نور من جانب، وتلك التي شكلتها “الدعم السريع”. وقال لـ”العربي الجديد” إن “حركتي نور والحلو ترتكزان على مشروع سواء اتفقت أو اختلفت معه، أما الدعم السريع فهي قوة مسلحة لا مشروع لها، وربما كانت في منظور غالبية السودانيين أداة لتنفيذ مخطط أو مشروع دولي يستهدف الدولة بكيانها، علاوة على أن الممارسات والفظائع التي ارتكبتها لا تجعلها تحظى بأي قبول مجتمعي، لذلك لا أعتقد أنها مؤهلة أخلاقياً لإنشاء إدارة مدنية في مناطق انتشارها”. وأشار عبد القيوم إلى أن منطقتي جبال النوبة وجبل مرة من حيث المساحات والجغرافيا تخضعان لسيطرة حركتي نور والحلو، في حين أن مناطق انتشار “الدعم” مع أنها تقلصت إلى حد كبير بعد استرداد الجيش أغلبها باستثناء ولايات دارفور الأربع، فهي مناطق متفرقة وأشبه بالكانتونات، لذلك من الصعوبة أن تتمكن “الدعم” من إنشاء سلطة أو جهاز بيروقراطي بكل ما يتطلبه من قنوات.

وذكر أنه من ناحية أخرى الانفصال سواء في القانون الدولي أو غيره يتطلب اشتراطات لا تتوفر في الحالة السودانية اليوم، كذلك انفصال أي إقليم تابع لأي دولة يتطلب توافقاً دولياً وإقليمياً لارتباطه بالجيوسياسي بكل تعقيداته، لا سيما في ظل الأوضاع الماثلة الآن إقليمياً ودولياً، والصراع على مناطق النفوذ والذي يرتبط وثيقاً بالصراع على الموارد. وتابع: “الوضع الجيوسياسي في المنطقة يجعل من المتعذر قبول طرح كهذا لتقسم السودان، وفي تقديري فالصراع الأوروبي الأميركي الواضح الآن في أفريقيا لا يسمح بذلك، من ناحية أخرى الصراع والتفاهمات بين أميركا ومحور روسيا والصين لا يبدو أنه من الممكن أن يكون مشروع تفكيك السودان وارداً على الأقل في المستقبل القريب”.

من جهته، قال عضو المكتب التنفيذي لـ”التيار الوطني” (تنظيم سياسي) نور الدين صلاح الدين، لـ”العربي الجديد”، إن إنشاء هذه الكيانات لا يخدم الأهداف المعلنة لها سواء كانت صادقة مثل ما يحدث في المناطق التي تسيطر عليها قوى الكفاح المسلح لما لها من مشروعات سياسية واضحة، أو كاذبة كالتي تقوم بها “الدعم السريع”، معتبراً أنها كلها لا تخدم الأهداف المذكورة لإنشائها لأنه لا يتم الاعتراف بها دولياً، وفي الوقت نفسه غير قادرة على تقديم خدمات حقيقية للمواطنين. وأضاف أنه وفق المنهج الحالي فالمسألة لا تؤثر إطلاقاً في ظل عدم وجود مقومات إنشاء دولة وقدرة على حشد أي نوع من الدعم للاعتراف بهذه السلطات بوصفها سلطات حقيقية وتمثل بلداً، وبالتالي يظل ما يحدث جهودا لخدمة السكان أو لأغراض الدعاية السياسية كما تفعل “الدعم السريع”. وذكر صلاح الدين أن هناك فعلاً مشاريع لتقسيم السودان لكنها لا تمر عبر بوابة مثل هذه السلطات المدنية التي يتم إنشاؤها هنا وهناك، وإنما عبر أطر وآليات أخرى. وأضاف أن ما حدث في جنوب السودان كان نتيجة هوة كبيرة في النسيج المجتمعي بالنسبة لسكان الجنوب وبقية سكان البلاد، إذ لم تستطع الأنظمة المتعاقبة إدارة التنوع الفريد بشكل أمثل وكان هناك انحياز لمجموعات ثقافية بعينها.

العربي الجديد

Exit mobile version