ما أسباب عودة نشاط حزب البشير؟

في غمار الأزمة السودانية المتفاقمة التي تمسك بتلابيب البلاد، شهدت الساحة السياسية حراكًا مكثفًا خلال الأسابيع الماضية داخل أروقة حزب المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم السابق برئاسة الرئيس السابق عمر البشير.

بينما اعتبر المتخوفون التوقيت غير ملائم، رأى الطامحون، والمتعجلون أن اللحظة الراهنة تشكل فرصة سانحة للظهور العلني واستعادة النفوذ، بعد فترة عصيبة هي الأسوأ في تاريخ الحزب، منذ سقوط النظام في أبريل/ نيسان 2019.

وفي هذا المناخ السياسي المضطرب، برزت محاولات مكثفة لإعادة ترتيب الصفوف وإحياء النشاط السياسي للحزب، حيث نجحت جهود لعقد مؤتمر مجلس شورى الحزب؛ بهدف انتخاب رئيس جديد. وقد تضمن هذا الحراك الاستماع لتسجيل للرئيس البشير من معتقله الحالي، حسب إفادة آخر وزير إعلام في النظام السابق.

هذه الخطوة الجريئة تحمل أحد احتمالين: إما أن الظروف السياسية قد نضجت بما يكفي لإعادة الظهور العلني، أو أن القرار جاء متسرعًا مدفوعًا بصراعات داخلية تتسابق فيها الأجنحة المختلفة لفرض أجنداتها السياسية داخل الحزب.

إن الذي أسقط نظام البشير لم تكن تلك التظاهرات المطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي، وإنما كانت أسباب السقوط بيديه لا بيد عمرو، حيث تصاعدت حدة صراعات الأجنحة التي مثلت قاعدة صلبة لإخفاقات طالت مفاصل الدولة، وبالضرورة مفاصل الحزب، فالبأس كان بين قيادات الحزب شديدًا.

لعل الزلزال الأول كان في العام 1999 الذي أحدثه ما عرف بالمفاصلة، حيث انشق الحزب إلى حزبين: “المؤتمر الوطني” بزعامة البشير، و”المؤتمر الشعبي” بزعامة الراحل حسن الترابي، ثم رويدًا رويدًا تبددت قبضة النظام على السلطة، ثم توالت الانشقاقات داخل حزب السلطة، فانسلخ في العام 2013 القيادي في الحزب غازي صلاح الدين، وشكّل ما عرف بـ”حركة الإصلاح الآن”، هذا فضلًا عن إبعاد رموز الحزب واحدًا تلو الآخر من السلطة، ومراكز اتخاذ القرار.

ولأن خلل الاستئثار بالسلطة ظلّ مُستحكمًا بين القيادات، فقد وقعت بسببه في مستنقع الانشقاقات، الأمر الذي مثّل وصمة فى جبين المشروع الفكري لحكم البلاد، لا سيما ما تبع ذلك من أحداث، وملاحقات، وملاسنات ذهبت بكل بريق للمشروع، وقد تبين أن الخلافات التنظيمية لم تكن إلا مظاهر سطحية لداء دفين في نفوس معظم تلك القيادات.

إن الصراع الأخير الذي برز في انتخاب رئيس جديد للحزب بدا قفزة في الظلام؛ نظرًا للتحديات الجسام التي تواجه الحزب، والدولة، وبدت نظرة المشفقين أقرب إلى الصواب؛ إذ تبين أن الحزب لم يتعلم من دروس الماضي، حيث يعيد اليوم متنفذوه استخدام ذات الأدوات السياسية التي قادت إلى انهيار سلطته.

وربما ارتكز المتعجلون أو أصحاب الأجندة إلى التحولات السياسية، والعسكرية بدءًا من فشل حكومة عبدالله حمدوك، وحاضنته السياسية قوى الحرية والتغيير (قحت) في إدارة الفترة الانتقالية، ثم بعد ذلك الحرب المدمرة الجارية الآن، والجرائم التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع في حق المواطنين العزل، حيث نتج عن كل ذلك حدوث نوع من المقارنة لصالح النظام السابق، لا سيما في مجالات: الأمن، والاستقرار، وحتى الوضع الاقتصادي، فزادت شعبية النظام السابق، ورحبت أكثرية بعودته.

ولعل ذلك جعل ردة فعل قيادة الدولة الحالية على استئناف نشاط الحزب ردة فعل خجولة، أو أقل حدة مما كان متوقعًا، وتحدث رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبدالفتاح البرهان معلقًا: “بكل أسف، سمعنا في الأسابيع الماضية أن المؤتمر الوطني يريد عقد اجتماع لمجلس الشورى، هذا أمر مرفوض”.

وأضاف: “لسنا في حاجة لأي صراعات، ولسنا في حاجة لأي تشتت الآن. نحن لدينا هدف نسعى له، ونحن متماسكون وموحدون، وهو هزيمة هؤلاء المتمردين، والقضاء عليهم”.

فما هي دلالات هذا النشاط السياسي في ظل المناخ العام في السودان، وما حجم التحديات التي تواجه الحزب، ومدى قدرته على التكيف مع المتغيرات الجديدة، وهل بالفعل تعكس هذه المحاولات للعودة قراءة صحيحة للواقع، أم إنها تمثل مجرد تمسك بالبقاء في الساحة السياسية، وما هو موقع الحركة الإسلامية من كل ما يجري؟

تطورات مكنت الحزب من استعادة نشاطه
لقد تمكن حزب المؤتمر الوطني، رغم حظره رسميًا بعد سقوط النظام السابق في أبريل/ نيسان 2019، من استعادة جزءٍ من نشاطه السياسي عبر سلسلة من التطورات التي ساعدت على تعزيز وجوده في الساحة السياسية.

ولعل من أهمّ هذه التطورات تفكك المشهد السياسي في الفترة التي أعقبت سقوط نظام البشير؛ والانقسامات الحادة بين القوى السياسية، والمدنية التي اختطفت الحراك الشعبي المناهض للحكومة آنذاك، إضافة إلى التوترات بين المكوِّنين: المدني، والعسكري في الفترة الانتقالية، وسوء استغلال السلطة السياسية من جانب المكون المدني، واستهداف قطاعات واسعة من الشعب السوداني باعتبارهم مؤيدين للنظام السابق، واستخدام سيف العزل السياسي، والطرد من الخدمة المدنية، واختلال الأمن العام بعد استهداف جهاز المخابرات الوطني مع تراجع كبير، ومخيف للاقتصاد، وتدهور العملة الوطنية أمام الدولار.

وفيما تم استهداف عشوائي للمواطنين، بقيت مراكز القوى التقليدية للحزب ناشطة كالمؤسسات القبلية، والدينية، فضلًا عن الاستثمار في الجموع الغاضبة من سياسات حكومة حمدوك، وقد بدا الرجل عاجزًا أمام هذه التحديات تعوزه الخبرة، والدربة، والإرادة السياسية.

كل ذلك الإخفاق حدا بالجيش للقيام بما أسماه تصحيح المسار السياسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وإقالة حكومة حمدوك، والطلب منه تشكيل حكومة جديدة ذات قاعدة سياسية أعرض دون أن تحتكرها (قحت)، لكن الأخيرة رفضت إعانة حمدوك على ذلك؛ لكونه فشل من قبل، ولكون التنازل عن احتكار السلطة الانتقالية كان مرفوضًا من جانبها، فاستقال حمدوك، وغادر البلاد.

هذا التطور الأخير استفاد منه أنصار النظام السابق في دعم توجهات تحافظ على نفوذهم السابق من خلال ملء الفراغ الذي تركه الخلاف الكبير بين (قحت)، وقيادة الجيش.

لاحقًا زادت الفجوة بين الجيش، و(قحت) عندما بدأت في استمالة الدعم السريع، والإيحاء لقائدها بأنه من الممكن أن يكون بديلًا للبرهان، بل حتى قواته يمكن أن تحل محل الجيش. وهنا تبيّن للجيش، – وقد استعاد جهاز المخابرات الوطني بعض صلاحياته – حجم تورط الأيادي الأجنبية في المشهد السوداني.

بالإضافة لكل ذلك، أدت تحولات إقليمية، ودولية، إلى تغير المصالح الإقليمية، والدولية في السودان، مما أتاح فرصًا لبعض القوى السياسية المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني للتقرب من أطراف فاعلة إقليميًا لتعزيز مكانتهم.

كل تلك التحولات، والتطورات وفرت مناخًا للحزب لإعادة تنظيم صفوفه رغم استمرار حظره، من خلال عقد أعضاء الحزب اجتماعات سرية، وغير رسمية، في إطار إعادة بناء هيكله التنظيمي، وهذا ما بدا في محاولات عقد مؤتمر مجلس الشورى الأخير لانتخاب قيادة جديدة.

مع ذلك فإن الحزب لم يأتِ بما هو كفيل بتدارك أخطائه، والاستفادة من دروس الفترة الماضية، بيدَ أنه تمكن فقط من استغلال نقاط الضعف في النظام السياسي لإعادة تموضعه.

موقع الحركة الإسلامية من الراهن
تعتبر الحركة الإسلامية السودانية الأساس الفكري، والتنظيمي الذي انبثق منه حزب المؤتمر الوطني. وقد بني الحزب على أساس سياسي، وتنفيذي ليكون واجهة النظام الحاكم خلال فترة حكم البشير، حيث تم توظيفه ليكون أداة لتنفيذ مشروع الحركة الإسلامية السياسي ضمن الحكومة.

ولذلك ترى الحركة نفسها المرجعية الفكرية، والأيديولوجية للمؤتمر الوطني، وتعتقد أنها صاحبة الحق في رسم الخط السياسي العام. لكن مع زيادة نفوذ الحزب خلال فترة حكم البشير، وتسارع تطور الأحداث، وتنامي الطموحات السياسية لقيادات الحزب، وحدوث المفاصلة الشهيرة المشار إليها آنفًا، أخذ الحزب يتحرر من سيطرة الحركة، خاصة مع تركيزه على قضايا الحكم، والسلطة أكثر من العمل على تنزيل المشروع الفكري تحت ضغط بريق السلطة، ولعاعتها.
في أعقاب الزلزال السياسي الثاني في أبريل/ نيسان 2019 والذي أتى على سلطة المؤتمر الوطني من القواعد اتخذت الحركة الإسلامية خطوات لإعادة هيكلتها، لكنها اصطدمت مرة أخرى بمحاولات الحزب استعادة دوره في الساحة السياسية، مما أدى إلى توترات بين الطرفين، فذات الأدوات، وذات الوسائل في “صراع الإخوة الأعداء” مضت تحمل معاول الهدم من جديد.

لقد أبدى بعض قادة الحركة الإسلامية انتقادات للحزب، محملين إياه مسؤولية فشل النظام السابق؛ بسبب فساد بعض قياداته، وسوء إدارة الدولة.

واليوم يقف الصراع في ذات النقطة الخلافية؛ فالحزب ما زال يحاول أن يصبح المرجعية التنفيذية، والسياسية كما كان خلال فترة حكمه المنصرم، متجاوزًا دور الحركة الإسلامية.

إن القيادات المتصارعة في الحزب تريد في سبيل تحقيق طموحاتها السياسية على حساب المؤسسية، أن تأخذ الحركة مكانًا قصيًا، وتبقى شِلوًا ممزقًا يعيش على رصيف الفعل السياسي. وفوق ذلك مطلوب منها تحمُّل وزر إخفاقات تجربة حكم امتدت لنحو 30 عامًا.

ثم ماذا بعد؟
إن الصراع على قيادة حزب المؤتمر الوطني يهدد بقاء الحزب ككيان موحد، ويفقده قدرته على لعب دور سياسي فعّال. فإن استمرت هذه الخلافات العاصفة دون حلول مؤسسية، ولا نقول توافقية، قد يتحول الحزب إلى قوة هامشية في المشهد السياسي السوداني، أو يختفي تمامًا من الساحة السياسية

ومع اشتداد الصراع، تضعف الهياكل التنظيمية للحزب، حيث تنشأ تيارات، وجماعات منفصلة تعمل بمعزل عن القيادة المركزية. إن ما يؤثر على قدرة الحزب على لعب دور سياسي فعال فقدان المصداقية أمام الرأي العام، إذ تعكس الخلافات صورة من الضعف، والانقسام، مما يقلل من جاذبية الحزب لدى القاعدة الشعبية، ويُضعف فرصه في استعادة النفوذ السياسي.

كذلك فإن الانشغال بالصراعات الداخلية يعمل على تراجع القدرة التنافسية للحزب، أي عدم القدرة على تقديم برامج سياسية مقنعة، أو منافسة القوى السياسية الأخرى. فضلًا عن أن هذه الصراعات تجعل من الصعب على الحزب بناء تحالفات مع قوى أخرى، حيث يُنظر إليه باعتباره كيانًا غير مستقر، وغير موثوق.

وإن لم يتم احتواء هذه الصراعات العبثية، فقد ينقسم الحزب إلى مجموعات أو تيارات متناحرة، مما يؤدي إلى فقدانه مكانته كقوة سياسية موحدة.

ولتجنب كل ذلك، يحتاج الحزب إلى إصلاح داخلي شامل، وإعادة هيكلة قاعدته التنظيمية ورؤيته السياسية. بالإضافة إلى إصلاح العلاقة بين الحزب، والحركة الإسلامية من خلال إعادة وضعيتها باعتبارها المرجعية الفكرية، والمؤسسية.

في ذات الوقت، لا سبيل لصلاح حال الحركة إلا بتحقيق أمر مهم، وهو: الاتجاه للفرد، والمجتمع، مما يقتضي أن يكون البرنامج الاجتماعي هو البرنامج الأهم في مشروعها للمرحلة المقبلة، على أن يستهدف ذلك النهوض بالفرد باعتباره محورًا أساسيًا للتنمية بكل أوجهها.

ولا بدّ من الاستفادة القصوى من الانتشار الواسع للمساجد، وتضاعف أعدادها، والاستفادة منها باعتبارها مراكز إشعاع فكري، واجتماعي، ولا بدّ من اعتماد إستراتيجية تُعيد للمسجد دوره المفتقد في الترابط الاجتماعي، والتكافل الاقتصادي.

وضمن البرنامج الاجتماعي تبرز ضرورة مواجهة تحدي الإصلاح الاقتصادي؛ لإقامة الاقتصاد على خطة الإنصاف، وعلى تحقيق ميزان العدالة بين من يملك، ومن لا يملك.

د. ياسر محجوب الحسين

Exit mobile version