في حال سقوط النظام سيناريو الفوضى.. خيار راجح أم فزاعة اختلقها “الوطني”؟

الشعب السوداني تمكن من إسقاط نظامين شموليين دون إراقة دماء

الحكومة : الحركات لا تملك القدرة على احتلال قرية في دارفور وهذا ينفي قدرتها على إحداث البلبلة في الخرطوم

المعارضة المدنية ترفض خيار إسقاط النظام عبر الانتفاضة المحمية بالسلاح وهذا دليل براءة

هب أن ثورة شعبية سلمية أجبرت المؤتمر الوطني على مبارحة كراسي السلطة التي جلس عليها لسبعة وعشرين عاماً، فهل سيقود هذا إلى إشاعة الفوضى واتساع دائرة الاحتراب وجريان أنهر من الدماء؟ الإجابة على هذا التساؤل لدى منسوبي الحزب الحاكم تذهب ناحية التأكيد والتأييد وتوقع حدوث اضطراب أمني يفقد البلاد الاستقرار الذي تنعم به، لذا فهم يلوحون باحتمالية تكرار النموذج السوري بأرض النيلين. ولكن بالمقابل يرفض معارضو النظام هذه الفرضية ويعتبرونها مجرد فزاعة يسعى من بيده السلطة إلى ترسيخها في أذهان العامة حتى ينفروا من كل تحرك نحو التغيير مثلما هو حادث هذه الأيام من دعوات لعصيان مدني.

وما بين المؤيدين لنظرية الانزلاق الأمني والرافضين لها يقف التاريخ متحدثاً والحاضر كاشفاً عن حقائق.

استدعاء التاريخ

الرافضون لمبدأ حدوث فوضى أمنية حال تغيير النظام الحالي سلمياً يرتكزون على عدد من الأسانيد التي تعضد رؤاهم، فهم يجزمون بعدم انزلاق البلاد الى مستنقع حرب أهلية أو مواجهات مسلحة كذلك الذي عم العديد من الدول عقب الربيع العربي الذي أوقد شرارته التونسي البوعزيزي في 2011م، ويعتبرون أن التاريخ خير شاهداً على صدق أطروحاتهم، وهنا نتصفح جزءاً من أوراق تاريخ السودان الحديث، وتحديداً عقب العام 1956 الذي شهد جلاء المستعمر البريطاني دون أن تراق أي دماء، وهو الجلاء الذي يؤكد الكثير من المؤرخين أنه انموذج حقيقي يوضح نجاح سياسة الضغط الناعمة التي انتهجها السودانيون منتصف القرن الماضي لنيل استقلالهم بعيداً عن إراقة الدماء.

ويقول التاريخ إنه بعد خروج المستعمر الإنجليزي تولت حكومة الزعيم إسماعيل الأزهري أمر البلاد ثم حكومة عبد الله بك خليل، وفي العام 1958 بدأت سلسلة الانقلابات العسكرية حيث صعد الى “كابينة” قيادة البلاد الجنرال إبراهيم عبود الذي يرى كثيرون أن السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني سلماه الحكم إلا أن توليه السلطة جاء بصورة سلمية ولم تشهد البلاد فوضى أمنية عقب ذهاب الحكومة الديمقراطية.

ويتواصل المسلسل

ليستمر الجنرال إبراهيم عبود في السلطة حاكماً للبلاد ست سنوات، لتضع الانتفاضة الشعبية السلمية حداً لمسيرته في أكتوبر من العام 1964م. ولم تشهد الخرطوم أو المدن السودانية أنهاراً من الدماء، حتى بعدما سقط عدد من الطلاب والمتظاهرين أبرزهم الشهيد أحمد القرشي لأن الجنرال عبود لم يتشبث بالمنصب وتنازل عنه سريعاً في تغيير اعتبره بعض الغربيين بأنه لا يشبه التجارب الأفريقية لسلميته، ليتولى سر الختم الخليفة الحكم خلال الفترة الانتقالية وبعدها عادت حكومة محمد أحمد المحجوب ثم الصادق المهدي.

وفي الأثناء فإن عبود الذي تمت الإطاحة به عبر ثورة شعبية، وبعد أن بات مواطناً عادياً كان يذهب ــ بحسب عدد من المصادر ــ إلى الأسواق وكثيراً ماهتفت له الجماهير “ضيعناك وضعنا وراك يا عبود”، ولم يتعرض إليه أحد بسوء، غير أن مغامرة أخرى لجنرال في الجيش وضعت حداً للديمقراطية الثانية، وذلك حينما صعد في العام 1969 جعفر محمد نميري إلى سدة الحكم، والذي حالت انتفاضة شعبية بينه وإكمال عامه السابع عشر في الحكم، وذلك في العام 1984، وأيضاً لم تشهد البلاد انفلاتاً أمنياً ولم تجر الدماء في الطرقات رغم أنه كان نظاماً عسكرياً يرتدي لامة الشمولية والحرب، فقد كان استسلام أجهزة نميري بسلمية هو العنوان البارز، ليتولى المشير عبد الرحمن سوار الذهب الحكم لفترة انتقالية ليسجل أيضًا سابقة في الوطن العربي وأفريقيا حينما سلم الحكومة إلى حكومة ما يعرف في الأوساط السياسية بفترة الديمقراطية الثالثة ولم يتشبث بالكرسي.

سلمية مجدداً

غير أن جنرالاً ثالثاً مسنوداً من الجبهة الإسلامية وهو العميد وقتها عمر البشير قاد انقلاباً عسكرياً على الحكومة الديمقراطية، وأيضًا لم تشهد البلاد حرباً ومواجهات عسكرية ولم يحتاج ضباط ثورة الإنقاذ إلى إطلاق طلقة واحدة لانتزاع الحكم لأن الحكومة الديمقراطية أيضًا لم تسع إلى المقاومة المسلحة، وما يزال المشير البشير رئيسًا للبلاد بل إنه وبعد مرور عقد من جلوسه على المنصب تقارب نظامه مع الأحزاب التي أبعدها عن السلطة في تأكيد على المنهج السلمي للشعب السوداني حاكمين ومحكومين.

إذن، ثلاثة انقلابات عسكرية ومثلها من الحكومات الديمقراطية، وفترتان انتقاليتان، وهذا يعني أن الحكم انتقل في البلاد عبر انقلاب، وبالتوافق والديمقراطي أكثر من ثماني مرات، ورغم ذلك لم يشهد السودان انفلاتاً أمنياً، وهذا التاريخ المشرق والمشرف للبلاد والذي يحسبه عدد من المراقبين المحليين والأجانب أنموذجًا فريدًا يوضح حقيقة الإنسان السوداني المتقبل لكل تغيير والرافض لأن يصحبه عنف.

وقياسًا على تاريخ السودانيين السلمي مع تغيير الأنظمة – يرى كثيرون – أن البلاد لن تنزلق إلى الفوضي الأمنية حال ذهاب نظام الإنقاذ سلمياً ويراهن هؤلاء على تسامح الشعب السوداني وعدم ميله نحو العنف.

متغيرات تزحزح الثوابت

غير أن هذه الحقائق التاريخية قد لا تروق لأنصار الحزب الحاكم الذين ظلوا يحذرون من خطورة التحرك نحو إسقاط نظامهم عبر عمل شعبي سلمي، وربما يرتكزون في دعواهم هذه على حقائق يؤكدها الواقع الذي يشير بجلاء إلى أن ثورات الربيع العربي ومثلما جلبت الى تونس حكومة ديمقراطية مستقرة عقب إنهاء حكم شمولي تزعمه زين العابدين بن علي، وفعلت ذات الأمر في مصر إلا أن ثورة مضادة أقصت الرئيس المنتخب محمد مرسي، وجاءت بجنرال مشكوك في شرعيته، إلا أن ذات الدولة لم تنزلق في مستنقع الحرب الأهلية أو العسكرية رغم ما تشهده من احتقان، غير أن عناوين ذات الربيع العربي بدول مثل اليمن، سوريا وليبيا توضح أن ثمن التغيير مكلف وباهظ، لدخول الدول الثلاث في فوضى أمنية لم تشهدها من قبل، بعد أن كانت تحفل باستقرار كامل في ليبيا وسوريا ونسبي في اليمن، وقول الإنقاذيين هنا وحتى وإن أرادوا به إخافة المواطنين من التحرك لإسقاطهم إلا أنه واقع تؤكده الحقائق الماثلة.

أين يكمن الخطر

إذن، فإن التاريخ يؤكد سلمية انتقال السلطة في السودان، فيما يشير الحاضر الى أن التغيير السلمي ربما كان ثمنه باهظاً، إذن لماذا التأكيد على أن البلاد ستواجه ظروفاً أمنية عصيبة، حال حدوث تغيير يفضي إلى ذهاب نظام الإسلاميين، الإجابة نجدها في ثنايا رأي الكاتب الصحفي زهير السراج الذي يرى أنه درج البعض على القول بأن (ذهاب) الإنقاذ سيؤدي إلى إشاعة الفوضى في البلاد واتساع دائرة الاحتراب وسفك الدماء، وهم لا يدرون أنهم بهذا القول يوجهون اتهاماً صريحاً وواضحاً لنظام الإنقاذ الذي ظل يحكم منذ 27 عاماً بالفشل في حماية البلاد وتأمين الحياة الآمنة للعباد وتوفير المناخ المناسب لمن يحكم بعده، بغض النظر عن الطريقة التي جاء بها، بعيداً عن الفوضى والاحتراب، تماماً مثلما حدث عندما استولت الإنقاذ على الحكم بانقلاب عسكري، فلم تشتعل الفوضى ولم يبادرها الناس بالحرب وسفك الدماء.

مخاوف

ويمضي الكاتب زهير السراج مضيفاً: عندما يحاول (الإنقاذيون) إخافتنا بأن سقوطهم أو تخليهم عن الحكم سيُغرق البلاد في الفوضى والدماء، وهو ما لم يحدث عند سقوط الحكومات السابقة كلها مدنية أو عسكرية، أجنبية أو وطنية، فإنهم بذلك يتهمون أنفسهم بارتكاب الكثير من الأخطاء الجسيمة وتغيير منهج التسامح ووحدة المشاعر والإحساس بالانتماء إلى وطن واحد وهوية واحدة هي الهوية السودانية، إلى شيء عكس ذلك، يستبدل التسامح بالعداء ويرسخ الغبن في النفوس، ويقود إلى التشرذم والتفكك والاقتتال وإغراق البلاد في الدماء عندما تلوح في الأفق أية فرصة مهما كانت ضئيلة، في وجود الإنقاذ أو في غيابها، للانقلاب على الإنقاذ، وهو ليس مما يُفرح أهل الإنقاذ، وإنما يجب أن يحزنهم ويقض مضاجعهم، لأنه لا يعنى سوى شيء واحد هو أن (الإنقاذ) فشلت فشلاً ذريعاً في الحفاظ على النهج السلمي للشعب السوداني الذي سمح للإنقاذ بالاستيلاء على السلطة بثلاثمائة عسكري فقط قبل 27 عاماً بدون أن يقاومها أحد، بينما صارت الآن تسخّر كل إمكانيات الدولة لحماية سلطتها، وتخشى على نفسها من السقوط، لسوء ما يمكن أن يحدث لها.

من يطلق الرصاص

في العام 2013 خرج مواطنون غاضبون إلى الشوارع احتجاجاً على رفع الدعم، وسقط منهم يومها أكثر من 86 متظاهرًا – بحسب الحكومة – وأكثر من مائتي متظاهر بحسب تأكيد منظمات وناشطين، وهي الحصيلة التي خلفت جراحاً غائرة في نفوس أسر الشهداء، وهو ما يدفع بالسؤال عالياً: هل يمكن أن تعود تلك الأحداث مجددًا حال تصاعد الاحتجاجات أو حدوث تغيير سلمي لنظام الإنقاذ، خاصة أن الحكومة تتهم الحركات بأنها وراء قتل المتظاهرين في سبتمبر؟ ومع أن هذا التبرير يبدو غريباً، لكنه مهم إذا ما ربطنا معه قول الحكومة نفسها بأن الحركات المسلحة انتهت تماماً، وهذا ما يمكن تأكيده في حديث نائب رئيس الجمهورية حسبو محمد عبد الرحمن الذي جزم قبل أسبوع من الآن بأن الحركات تلاشت بصورة نهائية.

حسناً، فهذا يعني انتفاء خطورة الحركات المسلحة التي قضت عليها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بحسب ما تقوله الحكومة. إذن وبناء على هذا يستطبع المراقبون أن يؤكدوا انتفاء احتمالية سقوط قتلى في المظاهرات، خاصة أن الحكومة تردد ليل نهار بأن الحركات لم تعد تمتلك القوة التي تمكنها من احتلال قرية بدارفور ناهيك عن الوصول إلى العاصمة لاستلام الحكم.

ويعتقد مراقبون أن تخويف الحكومة المواطنين من الحركات الدارفورية مجرد فزاعة لأنها عمليًا لم يعد لها وجود عسكري مؤثر.

وهذا يعني سقوط احتمالية دخول بندقية الحركات إلى سوح التظاهر السلمي، فهل ستقوم المعارضة المدنية بإطلاق الرصاص وتشيع الفوضى الأمنية، الإجابة أيضاً لا لأن تلك الحركات ظلت تؤكد أن العمل السلمي هو النهج الوحيد الذي تتبناه لتغيير النظام بل رفضت من قبل دخول خليل إبراهيم لأمدرمان عسكرياً، وذات المعارضة اختارت العصيان المدني بدلاً عن النزول إلى الشارع لتشكيل ضغط على الحكومة، وهذا يعني أنها لا تريد حدوث مواجهات، إذن من يطلق الرصاص ويحيل البلاد إلى فوضى أمنية في حالة تغيير النظام الحالي سلمياً؟ وهذا السؤال تحديداً يضع الذين يتخوفون من حدوث سيناريو الفوضى الأمنية أمام تحدٍّ كبير للإجابة عليه، ذلك أن الجهتين اللتين تزعم الحكومة بأنهما يمكن أن تتورطا في إشعال فتيل الفوضى غير مؤهلتين لذلك الفعل، وهما الحركات المسلحة التي تعيش – بحسب الحكومة – أسوأ حالاتها، وأحزاب المعارضة التي ظلت ترفض الانتفاضة المحمية بالسلاح التي تدعو لها الحركات المسلحة نفسها.

يمكن القول ،تاريخيا عرف عن القوات تامسلحة وقوات الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات أنها لم تتورط إطلاقاً في أي أعمال عنف في أي تغيير حدث في البلاد على امتداد التاريخ سواء أن كان انقلاباً أو انتفاضة شعبية.

الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.