بين القطيعة و السيادة : كيف يقطع السودان علاقاته مع الإمارات دون أن يخذل رعاياه؟

سودافاكس ـ في لحظات الاحتدام السياسي و تفاقم التوترات بين الدول، يصبح اتخاذ قرار قطع العلاقات الدبلوماسية ضرورة سيادية تُمليها الكرامة الوطنية وصيانة القرار المستقل غير أن هذا القرار، رغم جديته، لا يُعفي الدولة من التزاماتها القانونية والإنسانية تجاه رعاياها و رعايا الدولة الأخرى على أراضيها.
و في هذا السياق، يبرز السؤال المشروع: هل يمكن للسودان أن يقطع علاقاته الدبلوماسية مع دولة الإمارات، ويُبقي في الوقت نفسه على العمل القنصلي لخدمة المواطنين؟ وهل في ذلك مساس بسيادة الدولة؟ أم أن الأمر معمول به في الأعراف الدولية؟
الإجابة، من منظور القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، هي: نعم، و بشكل مشروع ومُعترف به، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد ذلك.
(٢)
تنظَّم العلاقات الدبلوماسية والقنصلية بين الدول على أسس قانونية راسخة، وضعتها اتفاقيتان رئيسيتان صادقت عليهما أغلب دول العالم، و هما:
1. اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961): وهي تمنح الحق لأي دولة في قطع العلاقات الدبلوماسية، بما يشمل إغلاق السفارات وسحب السفراء، دون أن تُلزمها بالإبقاء على أي تمثيل سياسي.
2. اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية (1963): تفصل بين الوظيفة الدبلوماسية السياسية والقنصلية الخدمية ، وتُجيز، حتى في حال القطيعة الكاملة، استمرار الخدمات القنصلية، سواءً مباشرة أو من خلال دولة ثالثة تقوم بـ”رعاية المصالح”، وذلك بموافقة الطرفين.
بناءً عليه يمكن للسودان أن يُغلق سفارته في أبوظبي، ويطلب من البعثة الإماراتية مغادرة الخرطوم، مع الإبقاء على قنصليته في دبي، أو تفويض دولة وسيطة صديقة أو الأمم المتحدة لتقديم هذه الخدمات القنصلية لرعايا السودان.
ليست العلاقات بين الدول مسألة مجاملة أو خضوع دائم لمعادلات القوة، بل هي عقد أخلاقي و قانوني يقوم على احترام السيادة والتوازن في المصالح. وقد ثبت أن دولةً — كالإمارات — قد تدخلت في الشأن السوداني بما يُهدد أمنه القومي، فإن القطيعة ليست خيارًا عاطفيًا، بل واجب وطني يُمليه الدفاع عن الكيان والسيادة والدستور.
لكن، في المقابل هناك جالية كبيرة من السودانيين تقيم في الإمارات، فضلاً عن وجود مصالح تجارية قائمة وجالية إماراتية في السودان، ما يجعل الإبقاء على التمثيل القنصلي ضرورة إنسانية وإدارية لا تنتقص من الحسم السياسي، بل تؤكده من موقع السيادة والقوة الأخلاقية.
(٣)
أمثلة تاريخية تُثبت أن هذا الخيار معمول به في حالات كثيرة:
1. الولايات المتحدة وألمانيا (1917): خلال الحرب العالمية الأولى، قطعت واشنطن علاقاتها مع برلين، لكن سويسرا تولّت رعاية المصالح الألمانية، وساعدت في تبادل الأسرى وتقديم الخدمات القنصلية.
2. بريطانيا والأرجنتين (1982): رغم الحرب حول جزر فوكلاند، لم تُترك الجاليات دون حماية؛ إذ تولّت سويسرا والبرازيل تمثيل مصالح الطرفين.
3. إيران والعراق (1980–1990): حتى في ذروة الحرب المدمرة، أُبقيت بعض القنوات القنصلية مفتوحة، خصوصًا عبر وسطاء مثل الأمم المتحدة والجزائر.
4. الولايات المتحدة وكوبا (1961–2015): رغم قطيعة دامت أكثر من نصف قرن، واصلت مكاتب رعاية المصالح إصدار التأشيرات و تقديم الخدمات القنصلية للمواطنين.
تُؤكد هذه النماذج أن القطيعة السياسية لا تُلغي الحصافة القانونية، ولا تُعفي الدولة من واجباتها تجاه مواطنيها.
للسودان اليوم خيارات عديدة تُتيح له اتخاذ موقف حازم تجاه الإمارات دون أن يُقصّر في واجباته:
1. إغلاق السفارة السودانية في الإمارات واستدعاء السفير.
2. إغلاق السفارة الإماراتية في الخرطوم، مع منح مهلة دبلوماسية قانونية للمغادرة.
3. الإبقاء على القنصلية السودانية في دبي، أو تفويض دولة وسيطة بتقديم الخدمات القنصلية.
4. تأسيس مكتب لرعاية المصالح الإماراتية في السودان عبر دولة محايدة، إن تطلب الأمر.
5. إطلاق خطة إعلامية رسمية تُوضّح خلفيات القرار وتطمئن المواطنين في الداخل والخارج علي مصالحهم.
أخيراً بين السيادة و المروءة، و بين السياسة والعدالة، يمكن للدولة السودانية أن تُمارس أقصى درجات الحسم دون أن تُنكر على نفسها أو غيرها أبسط قواعد الإنسانية. فالقوة لا تعني القطيعة العمياء، والسيادة لا تُمارَس بالشعارات، بل بالقرارات المتزنة التي تحترم الإنسان وتحمي الدولة في آن واحد.
إن قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، مع الإبقاء على التمثيل القنصلي، هو موقف متزن، قانونًا وأخلاقيًا، يُثبت أن السودان ما بعد الحرب لا يُساوم على كرامته، ولا يُعاقب شعبه باسم السيادة.
مراجع مهمة في العلاقات الدولية:
1. اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)
2. اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية (1963.
بقلم / عبدالعزيز يعقوب



