البرهان والمتاهة

سودافاكس _ تنازل الفريق عبد الفتاح البرهان عن سيادة الدولة التي استولى عليها أولاً عبر انقلابه المستند على الشرعية الثورية في 2019، ثم عبر انقلابه الثاني في 2021، وذلك حين وقع على الاتفاق الإطاري وإعلان جدة. وإذا حُمِل هذا التنازل على محمل الغباء السياسي لا التواطؤ مع المحاور الخارجية التي تدير الحرب، فإنه يظل من أبرز الأخطاء التي عمّقت تعقيدات المشهد السياسي والجيوسياسي للحرب.
وحتى اليوم، لا يزال البرهان يعطل مسار بناء السلطة عبر تعطيله المتعمد لتشكيل حكومة حرب، متمسكًا بصيغة “التكليف”. وهذا التأخر، إن لم يكن نابعا من تواطؤ مع سردية المحاور المعادية للدولة — وهو أمر غير مستبعد، خاصة بعد إذعان “جدة الثانية” لهذه السردية — فإنه على الأرجح نابع من دوافع سلطوية.
فمن منطلق هذه الدوافع السلطوية، يبدو أن البرهان يسعى لإبقاء الباب مواربًا أمام تسوية سياسية تُنهي الحرب عبر تشكيل سلطة توافقية، على أمل أن يُنظر إلى هذه السلطة كامتداد للشرعية الثورية التي نشأت منذ 2019. فتشكيل “حكومة حرب” — وليس “حكومة انتقال”— يعني تجاوز شرعية الثورة، وبالتالي غلق الباب في وجه أي أمل لصمود للعودة إلى المشهد. وهو باب لا يريد البرهان إغلاقه، بل يسعى لاستخدامه كورقة لإعادة إنتاج تلك الشرعية من خلال فك ارتباط صمود بالدعم السريع، والدفع بها نحو عملية سياسية تحت سيطرته، مقابل الاعتراف به كرئيس للدولة وقائد للجيش — وهي، في تصوره، الطريقة الأضمن للبقاء في السلطة.
وهنا، فإن جذر المسألة هو عدم الفصل بين العملية السياسية التي ستنهي الحرب والعملية السياسية التي ستبتدر انتقال ما بعد الحرب، ليأتي كلاهما كامتداد للشرعية الثورية الناشئة في ٢٠١٩؛ ذلك امتداد في عقل البرهان وذهنه لا يكتمل إلا بمشاركة قحت ومشتقاتها في عملية سياسية تنهي الحرب. لأنه يدرك أن لا مكان لقحت بعد انتهاء الحرب إذ هي لم تشارك في إنهائها برفع يدها من الدعم السريع.
أما الدافع الثاني، فهو أيضًا سلطوي، ويتمثل في رغبته في تعيين شخصيات مطواعة تنفذ ولا تعارض. لا يريد البرهان الاستناد إلى ما خلقته الحرب من حالة وطنية وواقع قاهر ليشكل حكومة من المستقلين الأكفاء، ولا أن يذهب نحو إعادة تعريف جذرية لمفهوم الشرعية. بل يميل إلى تعديل الوثيقة الدستورية لا إلغائها، ويتجنب أي لحظة سياسية مفصلية قد تفضي إلى شرعية جديدة — مثل تشكيل مجلس عسكري للحرب، أو هيئة برلمانية وطنية، أو حكومة حرب تنفيذية. فمثل هذا المشهد من شأنه إضعاف سلطته، وإضعاف أدوات تحكمه في مؤسسات الدولة التنفيذية.
وفي المحصلة، فإن أكبر عائق أمام النصر هو إصرار البرهان على إدارة الحرب بمنطق البقاء في الحكم، لا بمنطق المصلحة الوطنية. ومن ثم، أصبح أكبر مصدر لهزيمة سردية الدولة، وأكبر معطل لأداء أجهزتها، وأكثر من عقّد المشهد السياسي بإنتاج قوى داعمة للجيش تحت مظلات وخطابات متباينة، عوضاً عن الاستثمار في المظلة المناطقية للمقاومة الشعبية. وهو بذلك يعيد إنتاج فكرة “الوزنة” بين الأضداد، وهي ذات الفكرة التي استعان بها في إشعال الحرب بموازنة الجيش بالدعم السريع، تيمّناً بقراءة البشير لنفس الكتاب.
لقد كان هذا الرجل حجر عثرة أمام الديمقراطية في سياق الثورة، وخصماً للسيادة الوطنية في سياق الحرب، إذ ارتبط كرسي حكمه بجمع التناقضات: انقلاب على ثورة جاء أصلاً بشرعيتها، وانتصار متلكئ — في المستوى الجيوسياسي والسياسي— في حرب كان أحد أسباب اندلاعها.
فاللهم أكفنا شرّ مقتضى كرسي حكمه بما شئت وكيف شئت!
سودافاكس



