الركاب العابرون..فرصة السودان الذهبية

سودافاكس _ في مشهد الطيران العالمي، تحوّلت المطارات إلى ما يشبه المدن المصغّرة، لا لكونها تستقبل رحلات إلى وجهاتها فقط، بل لأنها أصبحت محطات عبور دولية ، يجني من خلالها مشغلو المطارات و شركات الطيران مليارات الدولارات سنويًا السودان، بموقعه الجغرافي الاستثنائي في قلب أفريقيا والشرق الأوسط، يملك فرصة نادرة لتحويل مطار الخرطوم عند إعادة اعماره برؤية استراتيجية إلى مركز إقليمي للركّاب العابرين، وهذه الفرصة ما تزال حتى اليوم في خانة الإمكانات الضائعة.
ماذا يعني أن يكون مطار الخرطوم مركزًا للركّاب العابرين؟
الركّاب العابرون هم أولئك الذين يمرّون عبر مطار معين في طريقهم من بلد إلى آخر، دون أن تكون وجهتهم النهائية تلك الدولة أو المدينة. هؤلاء لا يزورون الدولة، لكنهم يقضون ساعات – وربما ليالٍ – داخل المطار. القيمة الاقتصادية لهؤلاء الركّاب تتجاوز رسوم العبور، لتشمل الإنفاق في الأسواق الحرة، والفنادق، والمطاعم، وصالات الانتظار، إلى جانب دعم شركات الطيران العاملة عبر ذلك المطار. باختصار، هم محرّك خفي لكنه فعّال للنمو الاقتصادي في قطاع الطيران.
مطار الخرطوم: موقع مثالي ينتظر التفعيل
يتميّز مطار الخرطوم بموقع جغرافي يُعد من بين الأفضل إقليميًا، حيث يتوسط المسارات بين غرب أفريقيا وشرقها، وبين القارة ومنطقة الخليج، وكذلك بين أفريقيا وأوروبا. عند مقارنته بمطارات مثل أديس أبابا، الدوحة، دبي، الرياض، وإسطنبول، يتبيّن أنه أقرب إلى العواصم الأوروبية الكبرى بمسافة تصل إلى 1000 إلى 1500 كيلومتر أقل. هذا الفارق الجغرافي ليس مجرد رقم، بل يترجم إلى وفورات زمنية تتراوح بين ساعة ونصف إلى ساعتين ونصف لكل رحلة جوية، وهي ميزة استراتيجية بامتياز.
الزمن رأس مال مطار الخرطوم كاختصار للوقت والتكلفة
الزمن في عالم الطيران يُعد سلعة حيوية فالرحلة الأقصر تعني وقودًا أقل، صيانةً أقل، تشغيلًا أطول للطائرة، وزيادة في عدد الرحلات الممكنة يوميًا. على سبيل المثال، الطائرة متوسطة الحجم مثل A320 تستهلك ما بين 2.5 إلى 3.5 طن وقود إضافي لكل 1000 كيلومتر. وإذا تم حساب ذلك ماديًا، فإن كل رحلة طويلة مقارنة بالمسار الذي يمكن لمطار الخرطوم أن يوفّره، تُكلّف شركة الطيران ما بين 4000 إلى 6000 دولار إضافية.
بمعدل ثلاث رحلات يومية عبر مطار الخرطوم، يمكن لكل طائرة أن توفّر ما يفوق المليون دولار سنويًا في الوقود فقط. هذا دون احتساب الفوائد الأخرى، كإطالة العمر التشغيلي للطائرة بتقليل ساعات الطيران، وتأجيل مواعيد الصيانة الثقيلة التي قد تتجاوز تكلفتها السنوية نصف مليون دولار للطائرة الواحدة.
أما من حيث تشغيل الطواقم الجوية، فإن تقليص عدد ساعات الرحلات يُقلّل من فترات الراحة الإلزامية، ويتيح مرونة أكبر في جدولة الرحلات، ما يوفّر مئات آلاف الدولارات سنويًا في تكاليف الإقامة وتبديل الطواقم.
مطارات إقليمية نجحت في ما يمكن للخرطوم أن يتفوق فيه
مطار أديس أبابا وهو بداخل العاصمة رغم محدودية البنية التحتية مقارنة بمطارات الخليج، يستقبل أكثر من 15 مليون مسافر سنويًا، نصفهم تقريبًا ركّاب عابرون، وتُقدّر عائداته من الترانزيت فقط بأكثر من 250 مليون دولار سنويًا.
مطار دبي استقبل أكثر من 86 مليون راكب في عام 2023، منهم أكثر من 40 مليون عابر، محققًا إيرادات سوقية ضخمة تتجاوز ملياري دولار من العائدات غير الطيرانية.
مطار الدوحة حوّل قطر إلى دولة عبور جوية رغم صغر حجم السوق المحلي، ويستفيد من أكثر من 35 مليون راكب عابر سنويًا، بينما يتجاوز دخل الترانزيت 700 مليون دولار.
مطار إسطنبول، نقطة الوصل الجديدة بين آسيا وأوروبا، يستقبل نحو 70 مليون راكب سنويًا، منهم ما يزيد عن 30 مليون راكب عابر، ويشكّل محورًا رئيسيًا لنمو الخطوط التركية.
ما الذي يحتاجه مطار الخرطوم ليكون مركزًا للعبور؟
تطوير البنية التحتية للمطار ضمن خطة اعادة الاعمار
وجود صالات عبور حديثة مزودة بالأسواق الحرة والفنادق ومرافق الراحة. ضمن خطة اعادة الاعمار مما يوفر ربط داخلي سريع بين صالات الوصول والمغادرة لتقليل أوقات الترانزيت.
إصلاحات قانونية وتشريعية:
تحديث قوانين الجمارك والهجرة لتسهيل حركة الترانزيت.
إصدار لوائح تمنح حقوق النقل الجوي بتفعيل حريات النقل الجوي الخامسة والسادسة بمايخدم المصلحة العليا بتدرج ودونما اضرار بالشركات السودانية.
سياسات أجواء مفتوحة:
الانضمام الفوري والكامل إلى اتفاقية السوق الأفريقية الموحدة للطيران (SAATM).
توقيع اتفاقيات “أجواء جديدة ” عبر مؤتمرات الايكان برعاية الايكاو
مشغّليين وطنيين أو شراكة استراتيجية:
دعم شركات الطيران الوطنية أو الدخول في شراكات استراتيجية مع شركات إقليمية قادرة على تشغيل محور عبور من الخرطوم تعظيم العائدات غير الطيرانية:
تطوير منطقة تجارية حرة داخل المطار، مع خدمات فنادق وأسواق وصالات انتظار، الاستثمار في مواقف السيارات الذكية، وخدمات النقل، والمطاعم الراقية.
ختاما
إن تحويل مطار الخرطوم إلى مركز عبور دولي ليس حلمًا طموحًا بل مشروعٌ واقعيٌ له أسبابه، وأرقامه، وسوابقه الناجحة.
يمتلك السودان ميزة لا تُشترى بالمال: الموقع. لكن الموقع وحده لا يصنع النجاح ما لم تُرافقه رؤية استراتيجية، وسياسات منفتحة، وإرادة تنفيذية جادة.
الزمن، الذي يمكن أن يوفره مطار الخرطوم لكل رحلة جوية بين أفريقيا وأوروبا أو الخليج، ليس مجرد راحة للمسافر، بل هو اقتصاد مضاعف لشركات الطيران والمطار على حد سواء.
إن كنا نبحث عن مشروع قومي يعيد السودان إلى الخريطة الاقتصادية، فإن مطار الخرطوم الجديد كمركز عبور دولي هو أحد أكثر المشاريع قابليةً للتحقيق، وجدوى من حيث العائد، وأثرًا في إعادة تشكيل صورة السودان عالميًا.
طيران بلدنا