الديم .. مستعمرة الحبش في السودان ..الجزء 3 ..شارع “الجنة والنار” يجمع المتناقضات وأصوات الموسيقى تصم الآذان
شارع “الجنة والنار” يجمع المتناقضات وأصوات الموسيقى تصم الآذان
قاطنو الحي يجأرون بالشكوى والسلطات تمارس عادتها في الفرجة
بعض البيوت تحوّلت إلى محطة للإقامة المؤقتة قبل الهجرة إلى أوروبا
تحقيق وتصوير: تيسير الريح وناجي الكرشابي – صحيفة الصيحة
ما يتناقله الشارع العام، حفّز هّمتنا، فطفقنا نحقق باحثين لمعرفة الدوافع التي تسببت في وصم حي الديوم وتحديداً الشرقية منها، بالكثير من الأقاويل التي تدور حول الحي، لا سيما أنه كثرت وتواترت العديد من الشكاوى الفردية من ساكنيه، وقد طفح بهم الكيل في مناحٍ مختلفة لم يحتملوها. كل ذلك جعلنا نتجول في الحي لمدة عشرة أيام متصلة لفحص الظاهرة، في الحي الذي زادت شهرته بعد حادثة مقتل المواطنة (عوضية عجبنا جبريل شرنوف) بنيران بعض منسوبي الشرطة بالديوم الشرقية (الخرطوم) في إطلاق نار غير مبرر على مدنيين عزل، في حي يبعد عن قصر الرئاسة في الخرطوم، بكيلومترات محدودة.
توطئة:
حينما وقف الزميلان ناجي وتيسير على بعض الحقائق داخل حي الديم، استقر الرأي بأن يخوض الزميل ناجي مغامرة الحضور ليلاً والدخول إلى تلك البيوت، وأن تتولى الزميلة تيسير مهمة التنقيب نهاراً معية ناجي، وهو ما حدث طوال أيام هذه الجولة.
شارع الجنة والنار
الحاجة (م ــ م)، لم تظهر أي رضا وغلب عليها الشعور بالانزعاج ونحن نسألها عن الذي يجدونه، قبل أن تشير إلى أنها تقطن بالحي منذ أكثر من أربعين عاماً، قبل أن تشير إلى أنهم باتوا يجدون مصادر للقلق وعدم الراحة من كثرة الأجانب بالحي، وقالت ضاحكة إنها عندما تكون في زيارة لأهلها خارج الحي، وعند عودتهم إلى حي الديم، تقول (وصلنا الديم خلاص)، لأن رائحة السجائر تسيطر على أجواء الحي، وأضافت أنها ومنذ سنوات سكنها هنا بالديم، لم تعرف الراحة، خاصة وأن الإزعاج مسيطر على الحي تماماً، لاسيما أن البيوت التي يسكنها السودانيون لا تفوق الـ(5 بيوت) في الشارع الذي تسكن فيه والذي يحتوي على 50 بيتاً.. وأوضحت أنها لا تسمح لأحفادها باللعب خارج المنزل في الأمسيات، وما قبل المغرب، خوفاً من اكتساب كلمات لا ترقى للذوق بحسب ما يسمعون من أطفال الأجانب فيما بينهم وهم يلعبون، مشيرة إلى أن تلك الأسر التي تعتبرها وافدة أصبحت تسيطر على الحي بشكل مزعج، وكأنهم مواطنون يملكون كافة صلاحيات المواطن السوداني، وأفادتنا ضاحكة أن شارعهم هذا يسمونه بشارع (الجنة والنار)، وأوضحت أن سبب التسمية هو أن الذي يمر بالشارع يسمع تلاوة القرآن تتسلل من نوافذ البيوت القليلة التي بها سودانيون، بينما بقية الأبواب المفتوحة للبيوت التي يستأجرها الأجانب، فتخرج منها الموسيقى الصاخبة.
سيطرة الأجانب
حاجة (فاطمة) بضجر شديد، حكت لنا إلى أي مدى هي متضررة مما يحدث في الحي جراء استطيان الأجانب بحدٍّ تجاوز كل المعقول من التصرفات، وقالت: إن الشوارع في الديم لا تهدأ بالليل وهو الوقت الذي يفترض فيه كل الهدوء بحكم الوقت الزماني، فالشارع لا يهدأ من السكارى الذين يتلفظون بألفاظ نابية، وحكت أنها مريضة بأمراض مزمنة (ضغط الدم والقاوت)، وعليها مراجعة الفحص الطبي كل 15 يوماً، أشارت إلى أنها عندما تذهب للمركز الخاص بالحي، تجد أن الصفوف طويلة جداً، وكل الصف من الأجانب عدا أناس سودانيين تحسبهم على أصابع اليد الواحدة، مما يضطرها إلى (المقيل) في المركز للحصول على فرصة الدخول لمقابلة الطبيب، ومن ثم إجراء الفحص الروتيني، وأضافت أنه من الملاحظ في منحى آخر، أن هؤلاء الأجانب تصدر عنهم ضوضاء لا يمكن احتمالها منذ أن يبدأ المساء في إسدال أستاره، وزدات في القول إنهم كأهالٍ بالحي، كثيراً ما استجاروا بالمحلية، وكشفوا لها عما يؤرقهم من هؤلاء الأجانب الذين يصفونهم بالمتجاوزين في كل تصرفاتهم بالحي.. ولم يجدوا من المحلية آذاناً تسمع.
إخلاء السودانيين
لم يقل حديث الحاجة (مكة) لـ(الصيحة) عن إظهار الضجر الشديد مما حدثتنا به الحاجة (م .م)، فقد مضت حاجة (مكة) تعلن مدى تضررها، وهي تشير إلى أنهم وبالرغم من طول سنوات استقرارهم بحي الديم، إلا أن الكيل قد طفح بهم، وأصبح الوضع صعب احتماله بحسب حديثها لنا، وأبانت أن الأجانب استباحوا فرحهم الدائم بإقامة الحفلات لأعياد ميلاد ، وحفلات وصفتها لنا حاجة (مكة) بأنها تقام (بسبب وبلا سبب)، ففجأة يسمعون (الزغاريد) والموسيقى التي تبدأ من الساعة 11 مساء ولا يعرفون لها نهاية حتى مطلع الفجر، وأوضحت أن لها جيراناً من هؤلاء الأجانب يسيئون التعامل معها، خاصة وأنهم قاموا ببناء (دورات مياه) جوار مطبخها تماماً، الأمر الذي ضيق عليها الخناق أكثر، وأكدت أنهم يستهلكون كميات مهولة من المياه، ويقومون بسكبها على الممر الذي يفصل بين المنزلين، وأبانت (مكة) أنها كثيراً ما تحدثت معهم بشأن هذه المياه، وكيف أنهم يتضررون منها، فلم تجد منهم أي استجابة، وأوضحت أن ابنها مؤخراً قام بفتح بلاغ ضد هؤلاء الجيران الأجانب جراء تصرفاتهم، وأكدت أنهم الآن بصدد البحث عن منزل خارج حي الديم، بعد أن استعصى عليهم البقاء، وتزايد عليهم الوضع بالسوء، وأضافت أنهم مساءً يسمعون أصوات صراخ لنساء يتم ضربهن ولا يدرون من أي اتجاه تتعالى هذه الأصوات، خاصة أنها تأتيهم كثيفة الأمر الذي يصعب عليهم فرز مصدرها.
مقاسمة المواطنة
ما روته لنا (ف .ا) إحدى المواطنات التي تسكن بالحي لزمن طويل يؤكد أنهم ضاقوا ذرعاً بما يحدث في كل يوم، فالأمر خرج عن احتمالهم، ليدخل إلى دائرة الخطر الذين هم بصدد إعلاء صافرات الإنذار تجاه ما يشاهدون، ويعايشون، فتحدثت لنا وهي تظهر الامتعاض، قبل أن تشير إلى أن الأجانب يقاسمونهم حقوقهم المشروعة في المواطنة، وقد أكدت أن المواطن الأجنبي أصبح يمكن أن أن (ينهر) المواطن السوداني في صفوف المركز الصحي بالحي، إذا ما دار أي نقاش في الصفوف التي يكونون هم السبب في طولها، وأضافت أنهم بالقرب من الميدان المعروف بالطليعة، وصفت كيف أن الحال بات ضيقاً خاصة، وأن البيوت التي تجاورهم جميعها ملأى بالأجانب (الحبش)، وقالتا إن أكثرها مأوى آمن للرذيلة.
حظر المرور
المواطن (ح.ن) تحدث بغضب وهو يحكي معاناتهم التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وأشار لنا في معرض حديثه أنه هو وأسرته يسكنون في الديوم الشرقية، كأنهم ضيوف رغم أنهم يمتلكون المنزل ولا يستأجرونه، وأوضح أنه وأبناؤه لا يخرجون بعد الساعة الخامسة مساءً، وأن الشارع الذي يقطنون فيه يحظر فيه المرور من بعد الساعة الخامسة مساء، نظراً لتجوال السكارى في الشوارع،و الذين في الغالب يبدأ تجوالهم منذ الساعة الثانية ظهراً، وأضاف أن الوضع هنا بات غير آمان، مما يجعله حريصاً على أن يكون في منزله وليشكل حماية على أبنائه، فقد أوضح لنا أنه محاط من الجانبين، فجيرانه أحباش تصدر عنهم الكثير من التصرفات التي لا تليق، وجيرانه الآخرون، يعكفون على صنع الخمور، الأمر الذي يجبرهم على سماع كلام لا يحتمل سماعه أي مؤمن.
ضغط كثيف على الخدمات
(الصيحة) استطلعت بعض السكان عن وجود الأثيوبيين، وهل يشكل ضغطاً على الخدمات، فاتفق الكافة من أبناء منطقة الديم على أن الأحباش يشاركونهم في الخدمات رغم قلتها، إن كانت تعليماً أو صحة أو غيرهما, العم عوض صاحب محل عقارات يقول إنه خلال هذه السنوات القليلة شهدت أسعار إيجارات المنازل ارتفاعاً جنونياً حيث بلغ إيجار الغرفة الواحدة أكثر من ألف جنيه، وإن المنزل الواحد يتم تقسيمه بالزنك والقش لعدد من الغرف الصغيرة حيث يسكن فيه أكثر من 50 حبشياً.
عصابات تهريب البشر
عوض الله يقول إن هنالك بعض الأحباش أصبحت تجارتهم هي استئجار المنازل من المالك ومن ثم يقومون بفرشها فرشاً بسيطاً ويسكن فيها القادمون الجدد من إثيوبيا الذين يستخدمون الأراضي السودانية لعبور الصحراء الليبية والذهاب إلى أوربا حيث يسكن هؤلاء في هذه المساكن حيث يقوم “السمسار” بالبحث عن عمل لهم حتى يتمكنوا من جمع المبلغ المحدد للسفر إلى أوربا، وبمجرد اكتمال المبلغ يتم ترحيلهم إلى ليبيا ويسلمون إلى عصابة تهريب البشر.
وما يدلل على حديث العم عوض الله هو استطلاعنا لسكان الحي حيث أشاروا إلى أنهم يعرفون بأن هذا البيت يسكنه “حبش” ولكنهم يحرصون على عدم مخالطة الناس وأنهم يرون كل بضعة أيام أشخاصاً جدداً, ويقول صاحب بقالة بالمنطقة إنه حينما يسأل أحد سكان هذه البيوت من شخص معين كان يشتري منه تكون الإجابات على شاكلة سافر، ـو لا نعلم عنه شيئاً.
حراسة مشددة
تقول أمهات الأطفال إنهن يخشين على أبنائهن وهم في سن تكوُّن الشخصية من اكتساب سلوك الأحباش هذا، ولذلك فمعظم الأطفال يُمنعون من الخروج إلى الساحات والميادين للعب وإن خرجوا يكون بعض أفراد الأسر موجودين للمراقبة.
سوق أمهري
لا يكذب الزائر لسوق الديوم الشرقية عينيه في طغيان الأحباش هناك، بالرغم من أن السوق تعتبر ممراته أقرب إلى الأزقة، لدرجة أنه صعُب علينا المرور في بعض منها. وذلك بسبب جلوس الأجانب فيها، وقد استأجروا معظم المحلات التجارية بالسوق.
الشاهد أن كل لافتة رأيناها، تسبق أحرفها الأمهرية قبل اللغة العربية لكي يسهل على الزائرين من رواد المكان التعرف على الاسم ونوع الخدمة التي تقدم في المحل، وقد تزينت وجوه العاملات في تلك الأماكن التجارية بالأوشام، وتسيّد رمز الصليب جباههن، و”اللكنة” بادرة وهي إثبات أخرى، فهناك وجود ضئيل للترزية السودانيين الذين يحيكون الملابس البلدية (الجلاليب والعراريق)، وكان الفوز والنصيب الأوفى للترزية الأحباش، وقد تخصصوا في خياطة الأزياء النسائية بعد أن برعوا فيها، وقد علقوا بعض الملابس التي خلصوا من حياكتها على الأبواب الزجاجية الشفافة للعرض.
وفي مطعم باسم (قيتينس)، ملامح وروائح، تتضامن مع بعضها، فهو أمهري بحت، وقد تخصص في بيع وجبات (الكسرة الحبشية والزغني)، وبأسعار لم تكن باهظة، ونحن في غمرة ذلك كله دارت مشادة كلامية بين صاحبة المطعم، وأحد العاملين بالسوق والذي يعمل بحسب (الأبرول) الذي يرتديه، حداداً، فكان محور الجدل بينهما مفتاح الكهرباء الذي أصرت الفتاة الحبشية على أن يكون مفتوحًا بحجة أنها من اشترت الكهرباء، ليقاطعها الحداد السوداني، أنه سوف يحرمها من الكهرباء إن فتحته مجدداً، ولم ندر متى انتهت هذه المشادة الكلامية، لكن صوت الفتاة كان عالياً.
أديس سودانية
مشاهد صادمة استقرت في أذهاننا، ولم نكن ندري أن ما كان يسير في الشارع من أحاديث حول الديم، وتأريخها الممتد منذ نشأة الخرطوم، حقائق على أرض الواقع، وكأنه قد أصابت المكان لعنة، فالحرية تحكي عن نفسها في شوارع تشعر أنها تجري بسيقان طويلة، فرحاً أو أنها لم تسمع بالقيود إلا من أفواه زائري الحي الذين يتحينون الفرص في أي وقت شاءوا، بحثاً عن ملذات، فالعربات الفارهة تتوزع على الشوارع بشكل ملاحظ، والأبواب المشرعة لها حديث لم ينتهِ بعد.