الفاشر تحت النار.. مدينة تختنق وسط تواطؤ العالم
د. محمد حسن إمام
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان 2023، تحوّلت مدينة الفاشر -عاصمة ولاية شمال دارفور- إلى مرحلة جديدة من المعاناة، وصارت من أكثر المناطق اشتعالًا في السودان، بعد أن فرضت عليها قوات الدعم السريع حصارًا خانقًا يهدد بإبادة مدينة بأكملها.
ولم تعد المدينة رمزًا للاستقرار النسبي في دارفور، بل أصبحت مرآة لانهيار النظام السياسي والاجتماعي في السودان، ورمزًا للألم الإنساني الذي يتفاقم وسط صمت العالم. ومع تدهور الأوضاع الإنسانية وتصاعد وتيرة القتال، أصبحت المدينة رمزًا للمأساة الوطنية، ومنعطفًا خطيرًا في الحرب السودانية، وأيقونة صمود تعكس حجم التحديات المركبة التي تواجه البلاد بأكملها.
وتقع الفاشر في قلب إقليم دارفور، وتُعد عاصمة ولاية شمال دارفور، ومركزًا حيويًّا للتجارة والحراك السكاني بين الشمال والغرب. تاريخيًّا، مثّلت المدينة مقرًّا للسلطنة القديمة، ومركزًا لتلاقي المكونات الإثنية والقبلية، ما جعلها رمزًا للتعدد السوداني، وقلعة مدنية لا يمكن تجاوزها في معادلة الحكم والاستقرار. والسيطرة على الفاشر لا تعني فقط نصرًا ميدانيًّا، بل امتلاك ورقة ضغط سياسية قادرة على إعادة تشكيل المشهد.
بدأ الحصار تدريجيًّا بقطع الدعم السريع لطرق الإمداد والتموين، وامتد إلى استهداف مراكز حيوية مثل الأسواق، والمستشفيات، ومقارّ الإغاثة، ثم تطور إلى قصف جوي ومدفعي على الأحياء السكنية. ومع دخول المواجهات إلى نطاق الأحياء، أصبحت المدينة تعيش حالة حرب شاملة، وتزايدت المعاناة مع انهيار البنية التحتية، وفشل كل محاولات فتح ممرات إنسانية، وسط تجاهل دولي مريب.
خلاصة مواقف منظمات ومؤسسات حقوق الإنسان تشير إلى أن حصار الفاشر غير قانوني، تسبب في فظائع إنسانية، وقد يشكل جرائم حرب، والمجتمع الدولي مطالب بتصعيد الضغط ورفع الحصار فورًا
كارثة إنسانية متصاعدة
الفاشر الآن تقف على حافة المجاعة.. انعدمت الأدوية، ونفدت المحروقات، وأُغلقت المدارس والمستشفيات! يمشي السكان عشرات الكيلومترات للحصول على الماء، في حين يُباع الخبز بأسعار تفوق قدرة أغلب الأسر. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 70% من سكان المدينة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في وقت تغيب فيه معظم المنظمات الإنسانية عن المشهد بفعل غياب الضمانات الأمنية.
من يردع الجلاد؟
رُصدت ممارسات صادمة ارتكبتها قوات الدعم السريع، تشمل الإعدامات العشوائية، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، ونهب الأسواق، وإحراق ممتلكات خاصة وعامة، واغتصابات وتهجيرًا قسريًّا، ونهبًا واسع النطاق، ولم تسلم المساجد والمراكز الطبية، بل طالتها يد العبث والدمار.. كل هذا يحدث دون توثيق إعلامي كافٍ، وسط صمت مطبق من المجتمع الدولي، الذي يكتفي بإصدار بيانات القلق.
وثقت منظمات محلية ودولية ما يجري على أنه ليس مجرد معركة، إنه نمط من أنماط الجرائم ضد الإنسانية… هذه الانتهاكات لم تبق حبيسة الجغرافيا، بل إنها تهدد بعودة العنف العرقي والتطهير الطائفي الذي عرفته دارفور في العقدين الماضيين. والعالم يتفرج كما فعل مع رواندا والبوسنة، والغياب الدولي المريب يجعل من الكارثة جريمة بصمت دولي .
لقد صرحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان، في 20 أبريل/ نيسان 2024م، أن الحصار المستمر منذ مايو/ أيار 2024م ضرب حياة مئات الآلاف، ووجهت الدعوة لقوات الدعم السريع للإسراع برفع الحصار. وكذلك فإن مجلس حقوق الإنسان الأممي صدر عنه تقرير مشابه، ما اعتُبر تصعيدًا بالغ الخطورة، واعتبرت “هيومن رايتس ووتش” القرار بمثابة إنذار، محذرة من تصاعد خطر المجاعة. وأشار كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إلى أن هناك أدلة واسعة على ارتكاب جرائم حرب منظمة ضد الإنسانية في دارفور، وخصوصا الفاشر، ودعا إلى جمع البيانات حول هذه الانتهاكات.
إذن، خلاصة مواقف منظمات ومؤسسات حقوق الإنسان تشير إلى أن حصار الفاشر غير قانوني، تسبب في فظائع إنسانية، وقد يشكل جرائم حرب، والمجتمع الدولي مطالب بتصعيد الضغط ورفع الحصار فورًا.
إقليميًّا، تخشى دول الجوار -مثل تشاد- من تدفق اللاجئين، فيما تتوجس ليبيا من تسلل الفوضى. وعلى المستوى الدولي، لا تزال استجابة المجتمع الدولي دون المستوى، رغم أن الفاشر تصنَّف الآن كواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًّا
ويذكرنا حصار الفاشر بأطول حصار غير تقليدي متواصل، إذ يعد الأقرب لنموذج حصار مدينة سراييفو، الذي استمر 1425 يومًا، ونفذته القوات الصربية عام 1992م. ويعد حصار الفاشر من أخطر وأطول الحصارات في العالم المعاصر، ويجري في ظل تعتيم إعلامي كبير، وصمت دولي شبه كامل لما يقارب 600 يوم.
ورغم الضغوط، أظهرت مدينة الفاشر تماسكًا اجتماعيًّا نسبيًّا؛ حيث لعبت بعض القيادات المحلية، وزعماء القبائل، والأئمة، دورًا في تنظيم الإغاثة الذاتية والتعبئة المجتمعية، إلا أن هشاشة الوضع الميداني، ونقص الإمكانيات، والانقسامات السياسية، جعلت المدينة تقاوم بعزيمتها لا بإمكاناتها. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا في تعزيز التنسيق الداخلي، وبناء غرفة عمليات موحدة تدير الأزمة ميدانيًّا وإنسانيًّا.
ارتباك إقليمي وشلل دولي
إقليميًّا، تخشى دول الجوار -مثل تشاد- من تدفق اللاجئين، فيما تتوجس ليبيا من تسلل الفوضى. وعلى المستوى الدولي، لا تزال استجابة المجتمع الدولي دون المستوى، رغم أن الفاشر تصنَّف الآن كواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًّا. كذلك، ضعف التنسيق بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وتضارب المصالح بين اللاعبين الدوليين، جعلا من الفاشر ساحة اختبار أكدت فشل النظام الدولي في التعامل مع الكوارث المعقدة.
السيناريوهات المطروحة تتراوح بين الانهيار المدمر، والنجاة المشروطة، والانبعاث المقاوم. ورغم أن الانهيار يظل احتمالًا قائمًا، فإن إمكانية بناء مقاومة محلية تبقى واقعية، إذا ما توفرت أدوات التنظيم والدعم
ثلاثة سيناريوهات أمام الفاشر
السيناريو الأول: الانهيار الكامل.. سقوط الفاشر وتحول المشهد الإقليمي
في هذا السيناريو، يؤدي استمرار الحصار، وانعدام الدعم العسكري والإنساني، إلى سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع… سقوط المدينة لن يكون مجرد خسارة جغرافية، بل يمثل نقطة تحوّل إستراتيجية تغيّر ميزان القوى في دارفور. ستزداد موجات النزوح إلى دول الجوار، ما يفاقم الأزمات الإنسانية، بينما يستغل الدعم السريع سيطرته لتوسيع نفوذه سياسيًّا وعسكريًّا، مع مخاطر ارتفاع وتيرة الصراعات القبلية والعرقية داخليًّا.
السيناريو الثاني: التدخل الإنساني المحدود.. نافذة مؤقتة للأمل
لم تفلح الضغوط الدولية، عبر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، في فرض هدنة إنسانية مؤقتة تسمح بفتح ممرات لتوصيل المساعدات العاجلة إلى المدنيين؛ حيث أجرى الأمين العام للأمم المتحدة اتصالًا برئيس المجلس السيادي بتاريخ 27 يونيو/ حزيران 2025م، ورحبت الحكومة السودانية بمقترح الأمين العام للأمم المتحدة، بينما رفضت قوات الدعم السريع المقترح.
هذا التدخل، رغم أهميته في تخفيف المعاناة، يبقى محدود التأثير على مسار الحرب نفسه، إذ ستظل الفاشر تحت تهديد الحصار، لكن تحسن الظروف الإنسانية بشكل مؤقت قد يمنح الوقت للقوى المحلية لإعادة ترتيب صفوفها بشكل أكثر شمولًا.
السيناريو الثالث: المقاومة المحلية والصمود.. انطلاقة جديدة في قلب دارفور
يمثل هذا السيناريو أفضل خيار ممكن، إذ تستفيد الفاشر من تماسك قوات الجيش والحركات المسلحة المؤيدة، بدعم من المجتمعات المدنية وزعماء القبائل، والتنسيق بين هذه المكونات يصنع جبهة موحدة تقاوم الحصار بشراسة. وإذا نجح هذا التحالف في الحفاظ على المدينة، فإنه يعيد رسم خريطة النفوذ، كما يمنح المدنيين بارقة أمل .
الفاشر ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها مرآة مكبرة للحرب في السودان. إن سقطت سيسقط معها أمل التعايش والعدالة والمواطنة، وإن صمدت فستعيد كتابة سردية المقاومة
نتائج السيناريوهات
يتبين أن السيناريوهات المطروحة تتراوح بين الانهيار المدمر، والنجاة المشروطة، والانبعاث المقاوم. ورغم أن الانهيار يظل احتمالًا قائمًا، فإن إمكانية بناء مقاومة محلية تبقى واقعية، إذا ما توفرت أدوات التنظيم والدعم، داخليًّا وخارجيًّا. ويُعد السيناريو الثالث أكثر توازنًا، لكونه لا يكتفي بإنقاذ المدينة، بل يعيد للشارع السوداني ثقته في قدرته على المقاومة.
إعادة ضبط التوازن
في خضم التحولات المتسارعة والتحديات المتشابكة، تبرز الحاجة إلى تحرك عاجل وشامل يقوم على حماية المدنيين من القصف العشوائي، إلى جانب تفعيل غرف طوارئ مدنية وعسكرية داخل المدينة، لضمان تنسيق فعّال بين الجهات المختلفة، مع تأمين ممرات إغاثة تحت إشراف أممي يضمن وصول المساعدات الإنسانية بأمان وفعالية.
كما يستوجب الأمر فتح تحقيق مستقل في الجرائم والانتهاكات التي طالت السكان المدنيين، إلى جانب تكثيف الضغط على المنصات الإعلامية الدولية، لتسليط الضوء على المأساة ومنع تكرارها، مما يسهم في تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان.
الفاشر.. كاشفة الحقيقة السودانية
الفاشر ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها مرآة مكبرة للحرب في السودان. إن سقطت سيسقط معها أمل التعايش والعدالة والمواطنة، وإن صمدت فستعيد كتابة سردية المقاومة. لذا، فإن إنقاذها ليس واجبًا أخلاقيًّا فقط، بل ضرورة إستراتيجية لوحدة السودان ومستقبله.
حصار الفاشر ليس معزولًا، بل ياتي في إطار محاولة فرض واقع، وقد أصبحت المدينة مركز تجاذب، ومقياسًا لمستقبل الخارطة السياسية السودانية.
