صناعة القلق الأمني..!!

بسم الله الرحمن الرحيم
صناعة القلق الأمني..!!
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
بعد فترة طويلة من الهدوء الأمني الذي أعقب نجاح الشرطة في القبض سريعاً على المتهمين الثلاثة في قضية نهب هاتف سيدة بأم درمان، وهي الواقعة التي شغلت الرأي العام يومها، عادت الأحاديث بالأمس عن جرائم نهب جديدة في الحارة الثامنة أمدرمان. ورغم تضارب الأنباء حول صحة الحادثة، فإن مجرد انتشارها على منصات التواصل يكفي لإثارة “القلق الأمني” في نفوس الناس، وإظهار الخرطوم وكأنها مدينة غير آمنة.

الجريمة في أصلها ظاهرة اجتماعية قديمة، لم تخلُ منها أكثر الدول تقدماً ولا أكثرها تخلفاً، ولم تنجح أي شرطة في القضاء عليها نهائياً. لكن الخطورة ليست في وقوعها فحسب، وإنما في توظيفها عمداً لبث الخوف وزعزعة ثقة المجتمع في مؤسساته. وهنا يصبح الحدث الفردي مجرد وسيلة في معركة أوسع تستهدف استقرار الناس وصورتهم عن مدينتهم.

يقول الخبراء عن مفهوم القلق الأمني بأنه “شعور عام بانعدام الأمان ينتشر بين فئات المجتمع، قد يتولد من حوادث حقيقية، لكنه كثيراً ما يكون نتاج تضخيم أو إشاعات أو سرديات متعمدة لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. وهو لا يقتصر على الخوف النفسي، بل يتعداه إلى اهتزاز الثقة بالمؤسسات، وتراجع الاستثمار، وتفاقم الاحتقان الاجتماعي”
ومن هنا يبرز الدور الحاسم للشرطة وإعلامها؛ فالمعركة لا تُحسم بالمطاردات وحدها، بل بالكلمة المسؤولة أيضاً. فالناس إذا لم يجدوا رواية صادقة من جهة موثوقة، ملأت الشائعات فراغ الصمت وتحولت إلى “حقائق” متداولة. لذلك، فإن البيان الصريح أحياناً أبلغ أثراً من عشرات الدوريات في الشارع.

وفي هذا السياق، يظل دور الإدارات المتخصصة مثل المباحث المركزية والشرطة الأمنية محورياً؛ لا لملاحقة الجناة فحسب، بل لكشف من يقفون وراء صناعة القلق نفسه، أولئك الذين يتجاوزون غرض السرقة إلى هدف أخطر: هدم الإحساس الجمعي بالأمان وتحويل العاصمة إلى مسرح قلق دائم.

الحرب تركت جروحاً عميقة: ثقة مهزوزة في المؤسسات، انتشار السلاح، اقتصاد هش، ونزوح يغيّر النسيج الاجتماعي. وفي مثل هذا المناخ تصبح صناعة القلق سلاحاً بيد من يسعى لإضعاف الدولة وإطالة أمد الفوضى. وهنا مكمن التحدي؛ فالمعركة ليست مع لصوص شوارع بل مع عقول تدير مشهداً معقداً وتغذي الفوضى النفسية.

ومع ذلك، فإن الثقة تبقى راسخة في قدرة الشرطة، بما تملكه من خبرة واحترافية، على التصدي لهذه التحديات. فهي لا تكتفي بالعمل الميداني، بل تدير الوعي العام بالتنسيق مع بقية الأجهزة الأمنية، لتؤكد أن الخرطوم قادرة على النهوض مجدداً، وأن المجتمع السوداني، رغم جراح الحرب، لن يستسلم لصورة مصطنعة يراد له أن يصدقها.
23 سبتمبر 2025م

Exit mobile version