جداريات الطيب… تبث الأمل في الخرطوم وسط ركام الحرب

سودافاكس – في أحد أحياء الخرطوم، وبين جدران مسجد صغير تحيطه أشجار نخيل وظلال شجرة كبيرة، وُلدت قصة غير مألوفة في زمن الحرب. المكان الذي كان يبعث السكينة تحوّل مع مرور الأيام إلى ما يشبه مكباً للنفايات، بعدما أغرت الأوراق اليابسة بعض المارة بإلقاء أكياس القمامة خفية، ليصبح الموقع تدريجياً نقطة لتجميع المخلفات.
لكن الحرب التي فرضت البطالة على كثيرين، دفعت أحد سكان الحي إلى اتخاذ قرار مختلف. فقد رفض سهل الطيب أن يظل الركام شاهداً صامتاً على الخراب، فبدأ مشروع نظافة تطوعي استمر نحو شهرين.
ومع انتهاء تنظيف جدران المسجد، خطرت له فكرة لم تكن في الحسبان: تحويل الجدار إلى مساحة فنية مفتوحة.
“راجعين البيت”.. أول رسالة على الجدار
واستعان الطيب بما تيسر له من أدوات بسيطة، بينها طلاء حصل عليه من جيرانه، وكتب أول عبارة لافتة: “راجعين البيت”.
كانت الرسالة موجّهة إلى الأسر النازحة التي لجأت إلى الحي هرباً من الحرب، كتعبير مكثف عن الأمل بعودة الجميع إلى منازلهم آمنين. ثم أضاف عبارة أخرى: “سيعود السودان أقوى وستعود الخرطوم أجمل”.
رسائل ضد الانكسار
وقال الفنان التشكيلي سهل الطيب لـ«العربية.نت»: “كل جدار أرسمه هو وعد بالحياة… وعد بأن الخرطوم ستعود أجمل مما كانت”.
كما أردف “بدأت رحلتي مع الرسم في زمن الحرب حين كنت خطاطاً للافتات القماش في سوق أم درمان. لم أنطلق بصفتي فناناً، بل بصفتي مواطناً. أؤمن أن أعظم وظيفة على الإطلاق هي “المواطن”، لكن للأسف الناس يظنون أنها درجة دنيا، بينما الحقيقة أن المسؤولية لا تبدأ إلا حين نؤدي هذه الوظيفة بصدق وكمال”.
وتابع قائلا “أرسم الجداريات وأنا غريب عن الوسط التشكيلي، إذ لم ألتحق بكلية الفنون الجميلة بعدما أخفقت في امتحان القدرات. لكنني وجدت في الجداريات لغتي الخاصة، وميداني الذي أقاوم به العجز واليأس. ما يدفعني للاستمرار هو رغبتي في أن أقول للناس: لا تنكسروا. العدو لا يفتك بنا بالسلاح وحده، بل حين يرانا محبطين”.
تجربة شخصية مع الحرب
إلى ذلك، كشف الطيب قائلاً:” سقطت قذيفة على منزلنا، فاستُشهد أخي عز العرب وصديقه، ونجوت بفارق ثوانٍ وأمتار قليلة. كان من السهل أن أغرق في الخسارات، لكني خرجت بيقين آخر: أن النجاة رسالة، وما تبقى لك من عمر بعد النجاة ليس ملكاً لك وحدك، بل هو أمانة يجب أن تستثمرها لخدمة الآخرين”.
وأشار إلى أن “اختيار شارع النيل لم يكن عشوائياً، بل رسالة في قلب شريان بدأ للتو بالانفتاح. وعند مستشفى الخرطوم تعمدت أن أترك أثراً في انتظار الطواقم الطبية. كنت أقضي ساعات طويلة أزيل الأشواك عن الجدران تمهيداً لطلائها وسط صمت مطبق”.
كما استهدف الطيب مركز شباب كرري بأم درمان “لأنه كان نقطة انطلاق المبادرات نحو الأطراف المحررة”. ويوضح: “كل كلمة كتبتها هناك كانت موجهة للشباب، بعيداً عن أي تحشيد سياسي أو حزبي. الرسالة واضحة: نحن مواطنون سودانيون ضد الكراهية والعنصرية”.
تفاعل واسع رغم الصعوبات
كذلك أكد أن المبادرة حظيت بتفاعل واسع، مع اعتراضات محدودة “اقتصر أغلبها على من انشغلوا بالتشاكس السياسي”. أما أبرز التحديات فكانت ضعف الدعم المادي، لكنه تجاوزها بالتوقف المؤقت ثم استئناف العمل.
وبحسب العربية، ختم بالقول: “كثيراً ما واجهت الرصاص الطائش، وكنت أضطر أحياناً إلى الاحتماء أسفل الجدار حتى يزول الخطر، ثم أعود لمواصلة الرسم. بالنسبة لي، كل جدارية هي مقاومة صغيرة ورسالة تقول إن الخرطوم قادرة على النهوض من جديد”.



