الطيران العام في السودان.. من الازدهار إلى الغياب الكامل

ابراهيم عدلان
سودافاكس – يُعد قطاع الطيران العام (General Aviation) أحد أعمدة النقل الجوي في العالم، إذ يشمل أنشطة الطيران غير المجدولة مثل الطيران الزراعي، والمساحة الجوية، والطيران الإنساني، وطيران الشركات والمنظمات الدولية. وقد كانت الخرطوم في السبعينيات والثمانينيات مركزًا مزدهرًا لهذا النشاط، قبل أن يشهد القطاع تراجعًا حادًا واختفاءً شبه كامل خلال العقود التالية.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل أسباب اختفاء طائرات الجنرال أفييشن من سماء الخرطوم، واستعراض الآثار المترتبة على ذلك، بالاستناد إلى توصيات منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) وتجارب دول إفريقية استطاعت الحفاظ على هذا القطاع الحيوي.
فترة الازدهار: حين كانت سماء الخرطوم مزدحمة بالطائرات الصغيرة
بين عامي 1975 و1985، كانت الخرطوم نموذجًا لنشاط الطيران العام في إفريقيا. فقد اعتمدت مشروعات قومية مثل قناة جونقلي على طائرات شركة CCI، بينما شغّلت شركات النفط مثل شيفرون أساطيل من الطائرات الخفيفة لدعم أعمال الاستكشاف.
وشهدت تلك الفترة أيضًا نشاطًا لافتًا للشركات السودانية الخاصة مثل ساسكو، كترانج، نايل سفاري، وشركة الخرطوم للطيران، إلى جانب تشغيل الطائرات الحكومية التابعة لمصلحة المساحة ووزارة الزراعة لأغراض الرش الجوي. كما كانت المنظمات الدولية مثل اليونيسيف وبرنامج الغذاء العالمي تعتمد على هذا القطاع لتقديم المساعدات الإنسانية في مناطق السودان المختلفة.
أسباب التراجع والاختفاء
1. العوامل السياسية والأمنية
أدى اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب إلى تعطيل المشروعات القومية الكبرى مثل قناة جونقلي، وتوقف أعمال الاستكشاف النفطي لشركات أجنبية. كما أن البيئة الأمنية غير المستقرة جعلت تشغيل الطائرات الصغيرة محفوفًا بالمخاطر.
2. العوامل الاقتصادية والتنظيمية
بعد عام 1989، اتجهت السياسات الحكومية إلى تقييد نشاط الطيران الخاص بدلًا من تنظيمه وفق نهج مؤسسي كما توصي به الإيكاو (ICAO Doc 9734). غابت التشريعات الجاذبة للاستثمار في الطيران الخفيف، ولم تُقدَّم أي حوافز مالية أو تشغيلية للقطاع.
3. ضعف البنية التحتية والدعم الفني
تعاني البلاد من نقص حاد في مراكز الصيانة المعتمدة، وغياب برامج تدريب مستمرة للطيارين والمهندسين، رغم أن الإيكاو توصي بضرورة “استدامة التدريب في جميع أنشطة الطيران، بما في ذلك الطيران العام” (Annex 1 & Annex 6).
4. تحولات السوق والنقل الداخلي
توسع شبكة الطرق السريعة ودخول الحافلات الحديثة قلّلا من الجدوى الاقتصادية للطيران الداخلي الخفيف، مما جعل النقل البري خيارًا أكثر تفضيلًا وأقل تكلفة.
5. الفساد وضعف الحوكمة
أدى سوء الإدارة إلى اختفاء طائرات حكومية نتيجة البيع أو الإهمال، مع غياب نظام واضح لتتبع الأصول المملوكة للدولة في قطاع الطيران المدني.
الآثار المترتبة على غياب الطيران العام
- تراجع خدمات المساحة الجوية والطيران الزراعي بالرش.
- انعدام وسيلة سريعة لنقل الكوادر والمعدات داخل السودان.
- ضعف سوق تدريب الطيارين المبتدئين وانخفاض الخبرات المحلية.
- اعتماد مفرط على الطيران التجاري الكبير والنقل البري.
دروس من التجارب الإفريقية
في المقابل، نجحت دول مثل كينيا وجنوب إفريقيا في الحفاظ على قطاع الطيران العام عبر بيئة تنظيمية مرنة وتشجيع الاستثمار الخاص، مما جعله جزءًا من منظومة السياحة والخدمات اللوجستية. أما تنزانيا فقد ربطت الطيران العام بالسياحة البيئية، فحافظت على أسطول نشط من الطائرات الخفيفة يخدم المناطق النائية.
خلاصة وتوصيات لإحياء الجنرال أفييشن في السودان
إن اختفاء طائرات الجنرال أفييشن من أجواء الخرطوم يعكس خللاً عميقًا في بيئة الطيران المدني السوداني، حيث تضافرت العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية لتقويض قطاع كان يمكن أن يكون رافعة للتنمية والخدمات.
التوصيات:
- إصلاح الإطار التشريعي والتنظيمي بما يتماشى مع توصيات الإيكاو بشأن الفصل المؤسسي بين التنظيم والتشغيل.
- تأهيل البنية التحتية وإنشاء مراكز صيانة وتدريب معتمدة.
- تحفيز الاستثمار الخاص في الطيران الخفيف بحوافز ضريبية وتشغيلية.
- دمج الطيران العام في خطط التنمية الزراعية والسياحية والمساحية.
فإحياء قطاع الطيران العام في السودان لا يمثل مجرد خطوة تقنية، بل ضرورة تنموية لإعادة ربط مناطق البلاد ببعضها، وتحفيز الاقتصاد الوطني في مرحلة ما بعد الحرب.



