سودانير بين الهوية الوطنية والوصاية الحكومية.. الرسوم الجليلة والحاجة إلى قانون للناقل الوطني

إبراهيم عدلان

سودافاكس – منذ تأسيسها ظلت سودانير — Sudan Airways — الواجهة الرمزية للسودان في الأجواء، ورافعة علمه على الطائرات التي جابت القارات. غير أن العقود الماضية حمّلتها أعباءً ثقيلة من الازدواجية الإدارية والتبعية المتعددة بين وزارة المالية وسلطة الطيران المدني، لتفقد بالتدريج هويتها كمؤسسة تجارية وطنية مستقلة، وتتحول إلى كيان رمزي حكومي بلا قاعدة مؤسسية راسخة.

أولاً: ثنائية التبعية القاتلة

لقد أضعفت ثنائية التبعية بين المالية والطيران المدني قدرة سودانير على التطور.
فوزارة المالية تعاملها كمرفق تابع يحتاج للدعم، بينما تراها سلطة الطيران المدني ناقلاً خاضعًا للرقابة الفنية. وبهذا التناقض، فقدت الشركة استقلالها المالي والإداري، وتعطلت قدرتها على اتخاذ القرار التجاري في الوقت المناسب.
تعدد المرجعيات جعل منها كيانًا لا هو مصلحة حكومية خالصة، ولا شركة تجارية كاملة الأهلية، بل منطقة رمادية يضيع فيها القرار وتتشوه فيها الهوية.

ثانياً: الناقل الوطني أم الناقل الحكومي؟

يجب التمييز بين الناقل الوطني والناقل الحكومي:
• الناقل الوطني (National Carrier):
شركة تمثل الدولة في النقل الجوي التجاري، تعمل وفق قواعد السوق والتنافس، وتُدار باستقلال مالي وتشغيلي. تحمل العلم الوطني وتروّج له، لكنها تخضع للقانون التجاري وتُحاسب على الأداء لا الولاء.
• الناقل الحكومي (Government Carrier):
شركة تتبع إداريًا للحكومة، تُستخدم في المهام الرسمية، وتُموَّل من الخزينة العامة، وتُدار بقرارات سياسية أكثر من مبررات السوق.

أما سودانير، فقد ظلت بين الحالتين: فهي الناقل الرسمي لحكومة السودان (The Official Carrier)، لكنها لم تعد الناقل الوطني بالمعنى التجاري الذي يعكس الكفاءة والتنافسية.
ومع ظهور نواقل وطنية أخرى مثل تاركو وبدر ونسور السودان، تضاعف غموض هويتها، فباتت “الناقل الرسمي” بلا حضور اقتصادي مؤثر.

ثالثاً: الرسوم الجليلة – البعد السيادي للناقل الرسمي

من المزايا الأصيلة للناقل الرسمي تمتعه بما يُعرف بـ الرسوم الجليلة (Dignitary Privileges)، وهي امتيازات رمزية وتشريفية تعكس مكانته كممثل للدولة، وتشمل:
• حق حمل العلم الوطني والشعار الرسمي.
• أولوية نقل الوفود الحكومية والرسمية.
• إعفاءات أو تسهيلات في المطارات والرحلات الدبلوماسية.
• تمثيل الدولة في المحافل الجوية الدولية.

هذه الامتيازات تحمل قيمة سيادية ومعنوية، لكنها فقدت أثرها العملي عندما ضعفت القدرات التشغيلية والإدارية لسودانير، فغدت “الرسوم الجليلة” مجرّد لقب دون مضمون فعلي.

رابعاً: حقوق الـRoyalties – البعد الاقتصادي المهدور

إلى جانب الرسوم الجليلة، تمتلك الدول — من خلال ناقلها الرسمي — حقوقًا اقتصادية وتشغيلية تُعرف بـ Royalties، أي العوائد المالية التي تُحصّل مقابل استخدام الامتيازات السيادية أو العلامة الرسمية.
وتشمل هذه الحقوق:
1. حقوق النقل والتشغيل (Traffic Rights) التي تُمنح أو تُشارك مع نواقل أجنبية مقابل عائد.
2. استخدام العلامة التجارية الرسمية “Sudan Airways – The Official Carrier of the Republic of the Sudan” بموجب ترخيص تجاري.
3. عوائد المشاركة بالرمز (Code Share Royalties) مع شركات أخرى تستخدم اسم أو رمز الناقل الرسمي.

لكن سودانير لم تُفعّل هذه الحقوق، رغم أنها تمتلك أساسها القانوني والتاريخي، مما جعلها تفقد موردًا اقتصاديًا كان يمكن أن يوفّر لها دعامة استدامة مالية وسيادية معًا.

خامساً: الحاجة إلى قانون للناقل الوطني

إن ضياع هوية سودانير بين الرسمي والوطني، وفقدانها التوازن بين السيادة والتجارة، يعكسان غياب إطار قانوني واضح يُنظم وضعها.
ولهذا، فإن إصدار قانون للناقل الوطني السوداني لم يعد ترفًا، بل ضرورة سيادية وتنظيمية تضمن:
1. تحديد الشخصية القانونية للناقل الوطني واستقلاليته الإدارية والمالية.
2. تنظيم العلاقة بين الحكومة والشركة بحيث يكون الدعم والرقابة محددين قانونًا.
3. تحديد الامتيازات الرسمية والاقتصادية (الرسوم الجليلة، الـRoyalties، التسهيلات الجمركية والضريبية).
4. تثبيت الالتزامات الوطنية مثل خدمات الطوارئ والإجلاء والنقل الداخلي.
5. تمكين الشراكات والاستثمار الأجنبي ضمن ضوابط تحفظ السيادة الوطنية.

وتجارب الدول المجاورة تثبت ذلك:
• إثيوبيا تدير Ethiopian Airlines وفق قانون خاص يجعلها شركة عامة مستقلة.
• مصر للطيران تخضع لقانون خاص رقم 135 لسنة 2021، ينظم إدارتها كشركة قابضة مستقلة عن الوزارات.
• قطر للطيران تأسست بمرسوم أميري ضمن نظام يمنحها حصانة من التدخل الإداري المباشر مع التزامها بالتمثيل الرسمي للدولة.

سادساً: نحو إعادة تعريف الدور

إن إصلاح وضع سودانير يتطلب:
1. تحريرها من التبعية الوزارية المزدوجة.
2. تحويلها إلى شركة وطنية مساهمة تعمل وفق قانون الشركات والحوكمة الحديثة.
3. تثبيت صفتها الرسمية في القانون كـ Official Carrier مع استثمار امتيازاتها السيادية اقتصاديًا عبر نظام الـRoyalties.
4. تجديد إدارتها بكفاءات مهنية، لا بقرارات سياسية.

إن “الرسوم الجليلة” تمنح الناقل الرسمي الهيبة والسيادة،
وحقوق الـRoyalties تمنحه الجدوى والاستدامة الاقتصادية،
أما القانون الخاص بالناقل الوطني فهو الإطار الذي يجمع بين السيادة والكفاءة في كيان واحد.

وبهذا وحده يمكن أن تستعيد سودانير مكانتها الطبيعية:
ناقلاً رسميًا للدولة، وطنيًا للوطن، وتاريخيًا للشعب.




مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.