الفاشر والمحيط الإقليمي: تشاد وليبيا على خطوط النار

سودافاكس – لم يكن سقوط الفاشر أواخر أكتوبر حدثًا عابرًا في سجل الصراع السوداني، بل كان نقطة تحول درامية أظهرت هشاشة التوازنات الميدانية والسياسية. المدينة التي صمدت طويلاً أمام أكثر من 290 هجوماً متتالياً باتت رمزية للصمود الوطني، وسقوطها أعاد طرح أسئلة جوهرية عن إدارة الحرب، وعلاقات الجوار، وإمكانات استعادة الجيش للزمام في مراحل قادمة.
4 طائرات تهبط في مطار الفاشر تحمل أسلحة و ذخائر
الفاشر: موقع استراتيجي ورمز جغرافي وسياسي
الفاشر ليست مجرد عاصمة إقليمية؛ هي عقدة جغرافية تمتد قيمتها من الداخل إلى الحدود مع تشاد وليبيا. هذا الموقع جعلها محورًا للتجارة والحركة العسكرية والإمدادات، ومن ثم هدفًا لحملات نفوذ إقليمية. سيطرة الفاشر تعني بوابة نحو شمال وغرب السودان، وبالتالي فإن خسارتها تمثل تهديدًا لعمق الأمن القومي وفتحًا لمسارات لوجستية قد تستغلها مجموعات مسلحة وإقليمية.
خروج الجيش وانعكاساته الميدانية
انسحاب الجيش من الفاشر مثل جرحًا استراتيجيًا، لكنه أيضًا كشف عن خلل أوسع في التخطيط والقيادة. الصمود الطويل للمدينة أظهر قدرة ميدانية وإرادة شعبية، أما الانسحاب فكشف هشاشة سلاسل الإمداد والقرار. مع ذلك، فإن التاريخ يؤكد أن الجيش لديه خبرات في استعادة مواقع كبرى، لكن استرجاع الفاشر يتطلب أكثر من قوة نارية: يحتاج لإعادة تنظيم لوجيستي واستراتيجية سياسية متكاملة.
البعد الإنساني وتحويل السرد السياسي
تحولت الفاشر بسرعة من ساحة معركة إلى مشهد مأساوي سجّلت فيه تقارير عن مئات الضحايا ونزوح جماعي وإنتهاكات جسيمة استهدفت مرافق طبية ومدنيين. هذه الانتهاكات لم تكتفِ بتغيير خريطة المواجهة العسكرية، بل أعادت السودان إلى واجهة الضمير الدولي وخلقت ضغطًا دبلوماسيًا أوسع قد يساعد في عزلة الفاعلين وتحويل دعم خارجي إلى ضغط سياسي ودبلوماسي لمصلحة الخرطوم.
التداخل الإقليمي: تشاد وليبيا والحدود المفتوحة
تغذّي التداخلات عبر الحدود – سواء في الشق التشادي أو الليبي – المشهد المسلح في دارفور. علاقات بعض الميلشيات مع فصائل تشادية أو مع قوى في ليبيا سمحت بتدفقات سلاح ومقاتلين جعلت معادلة الفاشر مختلفة عن ساحات داخلية أخرى. ضبط الحدود وتعاون اقليمي فعّال هما عنصران لا غنى عنهما لأية محاولة استعادة طويلة المدى.
من الممكن؟ سيناريوهات استعادة الفاشر
استعادة الفاشر ليست مستحيلة، لكن نجاح أي حملة يتوقف على توفر عدة عناصر متزامنة: قيادة عسكرية موحدة وواضحة الأهداف، جبهات لوجستية آمنة وإمدادات مستمرة، تحصين الدعم الشعبي المحلي، وضغط دبلوماسي وإقليمي يقطع السبل أمام إمدادات خصم متوحّد. بدون هذه العناصر، قد تتحول محاولة الاستعادة إلى استنزاف إضافي يعرّي مزيدًا من الموارد الوطنية.
التحالفات الخارجية مخاطرة أم ضرورة؟
قد تبدو التحالفات الخارجية – سواء عبر دعم لوجستي أو تدريب أو تسليح – خيارًا مغريًا، لكن لكل تحالف كلفة سيادية ودائمة. التجارب الإقليمية تُعلم أن الدعم الخارجي غالبًا ما يأتي مرتبطًا بمصالح طويلة الأمد. لذلك، فإن بناء تحالف داخلي وطني جامع، ثم الاستعانة بدعم خارجي محسوب ومقيد بزمن وهدف محدد، هو الطريق الأكثر أمنية لاستعادة المبادرة دون التورط في تبعيات مستقبلية.
من الحرب إلى مشروع دولة: رهانات ما بعد الفاشر
الدرس الأهم من فشل الدفاع وإمكانات الاسترداد أن المعركة اليوم ليست فقط عسكرية، بل مشروعية: كيف تُدار الدولة، كيف تُحشد الموارد، وكيف يُبنى إجماع سياسي داخلي يمكنه تحويل الامتدادات الميدانية إلى استعادة حقيقية للسيادة. الفاشر يجب أن تكون فرصة لإعادة هندسة القرار الوطني وترتيب الأولويات الاستراتيجية.
خاتمة: بين النكبة والأمل
سقوط الفاشر ألم ودرس في آن واحد. استعادتها ممكنة إذا ما تراكمت الإرادة العسكرية مع رؤية سياسية وطنية واضحة وضغط دبلوماسي إقليمي ومجتمعي. لكن الرهان الأسمى ليس في استعادة موقع على الخريطة فحسب، بل في استعادة الوعي السياسي الذي يُحوّل تضحيات الميدان إلى مشروع دولة قادرة على حماية مواطنيها ومقدراتها.



