خال الرئيس البشير يكتب : ما آن لمصر أن تُنهي عهد البلطجة؟!
بقلم :الطيب مصطفى
ونحن ندعو إلى استعدال العلاقة العرجاء بين السودان ومصر حتى تقوم على أسس راسخة من الندية والاحترام المتبادل بعيداً عن (البلطجة والفهلوة والاستهبال) الذي طغى على التعامل المصري مع السودان منذ ما قبل الاستقلال بل منذ عهد محمد علي باشا ، أشعر بأننا بإزاء مرحلة جديدة من مراحل تطور العلاقة بين البلدين سيما وأن الأزمة الأخيرة فجّرت ما كان مسكوتاً عنه وحفلت تداعياتها بالصراحة التي افتقدناها طوال الفترات الماضية، فقد أوصل الشعب السوداني هذه المرة صوته بصورة قوية بعيداً عن أسلوب (الغطغطة) ومحاولات تضميد الجراح فوق الصديد والغرغرينة التي (تنتح) من الداخل الذي سرعان ما يلتهب ويتفجر كل حين معيداً المواجع والغبائن والتوترات التي نريد لها أن تنتهي إلى الأبد وإلى غير رجعة.
أعجبتني ملاحظات ذكية سطّرها دكتور عبداللطيف البوني في مقاله بصحيفة (السوداني) حول المأتم الذي أقامه مؤخراً بعض الموجوعين من إغراق مدينة حلفا القديمة وحول الذكريات التي استعادوها من جديد والتي لا تزال تؤزهم أزاً وترجّهم رجاً وقد نثر أولئك الحزانى في الوسائط صوراً لمدينتهم الفيحاء قبل أن تغمرها مياه السد العالي بمبانيها الفخمة وأشجارها الوريفة.
أشار البوني إلى أنه ما كان لتلك الأحزان أن تتجدد في نفوس الحلفاويين لولا الأحداث الأخيرة التي تطاول فيها سفهاء الإعلام المصري على السودان وشعبه وحضارته بالرغم من الاحتلال المصري لحلايب وبالرغم مما بذله السودان قديماً وحديثاً في خدمة مصر وشعبها بالمجان بل وبالخسارة فقد كان التعويض الذي حصل عليه السودان في عمليات تهجير أهالي حلفا أقل من نصف الخسارة التي تكبدها هذا علاوة على أن السودان لم ينل حتى ولو كيلو واط واحد من كهرباء السد العالي ناهيك عن إغراق آثار حضارة عريقة كان من الممكن أن تعزز ما اكتشف حديثاً عن سبق حضارة السودان وتفردها على مستوى العالم أجمع.
مما قاله البوني إن السودان يومها (ما كان يجرؤ على التحديق في وجه مصر) وكان وفدا التفاوض عندما يختلفان – ويا للعجب – يرفعان الأمر للرئيس المصري جمال عبدالناصر أما الآن فقد (كبرت العيال) وما عادت البلطجة والاستعباط يجدي فلو أن السودان أفاد من السد العالي لما ظل الحلفاويون يقيمون سرادق العزاء ويجددون الأحزان كل حين ولما تفاعل السودانيون مع الأزمة الأخيرة على النحو الذي حدث ويحدث هذه الأيام.
الملاحظة الأذكى للبوني أن الجرح الغائر الذي انغرس في أحشاء أبناء حلفاء هو الذي أصاب أهل الشمال بفوبيا السدود مما جعلهم يقاومون إقامتها كما أن الرأي العام السوداني تقبل ، جراء ما أصابه من مصر ، مشروع سد النهضة بصدر رحب رداً للصاع المصري في السد العالي صاعين وكما تدين تدان سيما وأن فوائد السد الإثيوبي للسودان لا تقارن بخسائر السودان من إنشاء السد العالي المصري.
الباحث السوداني الكبير د.سلمان محمد أحمد سلمان الذي بذل جهداً كبيراً في سبر أغوار مشروع سد النهضة وأثبت فوائده الجمّة للسودان مقارنة بخسائره أضاف ما يوجع القلب ويفري الكبد عن كيف (طبزت) حكومة المرحوم عبود ، بموافقتها على القسمة الضيزى الناشئة عن قيام السد العالي ، عينها وانحازت إلى مصر على حساب موطنها وضحت بمصالح بلادها كما يفعل بعض السذج من كتاب الغفلة في أيامنا هذه فبالإضافة إلى مدينة حلفا تم إغراق (27) قرية شمال وجنوب المدينة وترحيل (50.000) من السودانيين وغرقت مع تلك القرى (200.000) فدان من الأراضي الزراعية الخصبة وأكثر من مليون شجرة نخيل وحوامض وثروة هائلة من الآثار والمعادن لا يدري أحد كمياتها أو قيمتها وشلالات كان من الممكن أن تولد أكثر من (650) ميقاواط من الكهرباء .. غرق كل ذلك في بحيرة السد العالي إلى الأبد وحصل السودان من مصر على (15) مليون جنيه من جملة (37) مليون جنيه خسرها لإعادة توطين المهجرين بما يعني أن السودان خسر حوالي (250)% مما دفعته مصر .
أزيدكم ألماً على ألم ووجعاً على وجع .. فقد سوقت مصر نظرية أن السد العالي لم يقم إلا لمصلحة البلدين ولكن هل حدث ذلك أم أنها ذات البلطجة والفهلوة التي سادت علاقة مصر بالسودان؟.
كما ذكرت فإن السودان لم ينل ولو واط واحد من كهرباء السد العالي التي تجاوزت (2000) ميقاواط ثم زاد السودان كرمه ووافق عام 1959 على إعطاء مصر (سلفة مائية) من نصيب السودان ظلت تفقده أكثر من مليار متر مكعب كل عام ولم يستردها بالطبع حتى الآن بل أن السودان يفقد سنوياً من التبخر في بحيرة السد خمسة مليارات متر مكعب من المياه.
ظل السودان حسب د.سلمان يستخدم حوالي (12) مليار متر مكعب من حصته البالغة (18) مليار وبالرغم من ذلك ظلّت مصر تقاوم أي توسع زراعي للسودان يمكنه من استهلاك حصته وذلك لكي تتدفق حصته إلى الشمال وتخدم مصر التي لم يقنعها أن حصتها في مياه النيل تبلغ ثلاثة أضعاف حصة السودان(55.5) مليار متر مكعب.
صدقوني أن هذا قليل من كثير قدمه السودان لمصر وبالرغم من ذلك ظلّت تكيد له وتحتل أرضه (حلايب مثلا) ويتطاول سفهاؤها عليه وعلى حضارته وعلى شعبه الذي نفد صبره فوالله لم أر الشعب السوداني غاضباً من مصر كما رأيته خلال الأيام الماضية فهل يعي حكام مصر ونخب مصر وشعب مصر خطورة ذلك على مستقبل العلاقة بين البلدين؟.
كم سعدت لأن يقر الكاتب المصري المحترم فهمي هويدي ويعترف بالحقيقة ويكشف ما فقده السودان في مدينة حلفا من أجل مصر بل وما يجنيه من سد النهضة الإثيوبي مما لا ترضاه مصر التي تريد من السودان أن يخوض لها معاركها ويضحي من أجلها كما ظل يفعل على مدار التاريخ.
ما ذكرت ذلك إلا لكي أطلب من حكومتنا وقد اتخذت مواقف مستقلة راعت فيها مصالح السودان خاصة بشأن سد النهضة أن تواصل خط مصارحة مصر بأن عليها أن تُنهي عهد الاستغفال والاستهبال الذي سيحيق بها ويعزلها عن كل شعوب الدنيا بمن فيهم الشعب السوداني الذي تعلم مصر أنه كان وسيظل هو الجار الأقرب والأوثق الذي تمثل بلاده العمق الاستراتيجي الدائم لمصر عبر جميع حقب التاريخ.