هل سيشهد السودان تأسيس أول حزب صوفي في العالم الإسلامي؟

بدا أن حراكًا متصاعدًا ظل ينتظم المتصوفة في الفترة الأخيرة، كان ينتظر الوقت المناسب كي يطفو على السطح؛ وما إن أقدمت السلطات في مايو (أيار) المنصرم على منع قيام ندوة أعدّ المتصوفة لتنظيمها، وحشدوا لها المريدين؛ لتناول قضاياهم؛ حتى تفجّرت – عقب تلك الخطوة مباشرة – موجات من الغضب، مطلقةً ما يمكن وصفه مقدمات لثورة وسط كيانات التصوف بالبلاد.

وقد ترتب علي قرار إلغاء تلك الندوة، ردود أفعال غاضبة من القوم، ما تزال تصدر حتى لحظة كتابة هذه السطور، كما انخرطت رموز التصوف في الإدلاء بالتصريحات، وإصدار البيانات والمشاركة في المقابلات التلفزيونية.

صحيحٌ أن هناك قضايا لتيارات التصوف؛ ومن الطبيعي أن يتم التعبير عن تلك القضايا، غير أن ردود الأفعال التي أعقبت إلغاء الندوة، تضمنت مطالب جديدة كليًا بالنسبة للمتصوفة، منها – على سبيل المثال – الكشف عن توجه لتشكيل حزب سياسي للمتصوفة، وهو أمرٌ غاية اليسر فى السودان مع شعبية التصوف ووجود قِوى دفع خارجية تدفع بهذا الاتجاه، وسيكون ذلك – حال تأسيسه – أول حزب صوفي في العالم الإسلامي. كما تضمنت ردود الأفعال تلك لهجة تصعيدية ملحوظة، وهى نزعة لم تكن مألوفة لدي أهل التصوف، فضلًا عن أجندة متطابقة وموحدة وواضحة تمامًا وشكاوى تجاه كيانات رسمية محددة.

بالنسبة للمُطلّع علي تاريخ التصوف في السودان، والطرق الكثيرة التي تزخر بها البلاد، فإن ممارسة المتصوفة للسياسة – أو لنقل توظيفهم في اللعبة السياسية – لا يعدُ جديدًا في حد ذاته، ولكن الجديد هنا هو الجرأة في خطاب رموز حِراك التصوف، وروح المواجهة والتحدي تجاه مجموعات دينية (كالتيارات السلفية) أو أجهزة الدولة أوبعض مؤسساتها ذات الصلة بتنظيم الشأن الديني (مجمع الفقه الإسلامي).

في بدايات الحكم الحالي (ثورة الإنقاذ الوطني، منذ 30 يونيو (حزيران) 1989)، كانت هناك سياسات مدروسة لإدارة ملف التصوف، وذلك لما تمثله القاعدة الصوفية من أهمية تعبوية لنظام الحكم ومشروعه السياسى فى مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

رصد الباحث الأمريكي المختص في العلاقة السلفية والصوفية، نوح سالمون، هذه النقطة عندما تناول في أعماله المختلفة، وكيف أدارت حكومة الإنقاد الوطني في السودان – والتي تتبنى مشروعًا سياسيًا إسلاميًا – القاعدة الدينية في البلاد، خاصة مع وجود قطبين كبيرين متناحرين على الدوام هما: المتصوفة، والسلفيون.

في خضم هذا الحِراك الصوفى، يمكن القول أنّ توجهًا جديدًا كليًا قد طرأ حاليًا علي مسار التصوف في السودان، سوف تترتب على هذا التوجه تداعيات كبيرة مستقبلًا، سيّما إذا ما تطورت الأوضاع نحو مواجهة حقيقية تطوّي صفحة الموادعة والسكون اللتين ميزتا المتصوفة.

كانت مطالب المتصوفة التي برزت خلال الحراك، وهي مطالب لا مشاحة فيها، تلخصت إجمالًا في التالي: تعديل بعض اللوائح الخاصة بتنظيم المساجد، وتعديل كذلك القوانين التي تمس التقاليد الصوفية (الدجل والشعبذة)، وإتاحة الفرص للمتصوفة في وسائل الإعلام والفُتيا أسوة بالسلفيين، والحد من نفوذ التيارات السلفية، وتعديل سياسات مجمع الفقه الإسلامى والمجلس الأعلى للدعوة…إلخ.

غير أنه، وبتحليل مضمون خطابات رموز هذا الحراك الصوفي، يبدو جليًا أن هناك صلة ما بين هذه الخطابات المؤسسة لهذا الحراك، ونشاطات ما باتت يعرف بـشبكات التصوف السياسي، وإن كان من المبكر الاستدلال على هذه الصلة، ولكن لا يمكن نفيها، في ظل التحركات الأخطبوطية لما تيسمى بـشبكات التصوف السياسي، والتي تهدف إلى إحياء وتشجيع التصوف لمحاربة التيارات الإسلامي، وخاصة التيارات السلفية على وجه الخصوص، وهي مدعومة من أطراف إقليمية ودولية ومؤسسات دولية ضمن إستراتيجية بعيدة المدى لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، واستئصال جذور الأصولية والتطرف.

لذا، وبالنظر إلى وجود سوق للسياسات الدينية، مع وجود مشاريع متصارعة تهدف إلى إعادة المشهد الديني مدعومة من قبل قوى إقليمية ودولية، لا يمكن فهم هذا التحرك للمتصوفة في السودان بعيدًا بمعزل عن التفاعلات الإقليمية والدولية المتصلة بالشرق الأوسط أو العالم الإسلامى عمومًا. ذلك أن السودان يعتبر بيئة مثالية لتجريب إمكانية تطبيق نماذج من التصوف السياسي، كنقيض للإسلام السياسى، يمكن تعميمها على بقية بلدان العالم الإسلامى.

ما يثير القلق حقًا، في حراك المتصوفة في السودان الحالي، حقيقة هذا الدور الخارجي الذي يلعب من وراء ستار، وهو بمثابة قوى ضغط باتجاه أدوار جديدة للمتصوفة؛ وبغض النظر إن كان المتصوفة واعين بهذه الأدوار أم لا؛ فما رواء هذا الحراك تكمن جملة من العوامل منها:

أولًا، توظيف المتصوفة كحصان طروادة لتحقيق نفوذ سياسي في بلد كالسودان يشهد فوضى في عدد الأحزاب، وسهولة شروط تأسيسها، سيّما وأن المتصوفة ظلوا على الدوام يستخدمون كورقة رابحة في حالات التعبئة والحشود، مع بروز دور سياسي لرموز التصوف في العديد من المناسبات والقضايا العامة داخليًا وخارجيًا في الآونة الأخيرة.

ثانيًا، بعض القوي الخارجية، إيران هنا، والتي كانت إستراتيجيتها لنشر التشيُّع في السودان تقوم على اختراق الطُرُق الصوفية، ولكن هذه الإستراتيجية تأثرت بشدة بقطع السودان علاقاته الديبلوماسية مع إيران وغلق ملحقيتها الثقافية في البلاد. لذا تسعى لإيران على التغلل داخل نسيج التصوف وإستخدامه كغطاء للاستمرار في التبشير الطائفي، كما تسعى كذلك لاستغلال أي حراك لمناهضة الحكومة – من الداخل – خاصة عبر إذكاء الصراع السلفي – الصوفي، وهو ما يضمن لمشروعها الاستمرارية.

ثالثًا، كذلك، هناك بعض الدوائر الخارجية تحاول الرهان على المتصوفة لتوظيفهم كورقة سياسية رابحة في إطار لُعبة النفوذ والتحالفات، وهي بذلك تحاول دق إسفين بين المتصوفة والحكومة، بُغية إعادة ترتيب المشهد السياسي في البلاد، لاسيما قبل الانتخابات العامة المقرر له العام 2020.

رابعًا، إن سوء إدارة الحكومة للملف الديني، لاسيما ملف الطرق الصوفية، يعتبر عامل مساعد على التدخلات الخارجية في شأن التصوف، مع إهمال وتهميش المؤسسات التى كانت تنظم التواصل بين المتصوفة وأجهزة الدولة، وتحديدًا المجلس الأعلى للذكر والذاكرين.

ختامًا، وفى ظل تعقيدات المشهد السودانى، فإنّ أي تغيير في خطابات ومواقف المتصوفة – ككتلة كبيرة وسط المجتمع – تحت تأثير جهات أوعوامل عديدة – خارجية خاصة – أتينا على ذكرها، سوف يؤدي ذلك إلى تداعيات خطيرة جدًا.

ساسة بوست


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.