هل أصبح تقسيمها هو الحل؟ خبيرٌ دولي يدعو لإقامة دويلاتٍ في سوريا خروجاً من الأزمة.. تعرَّف على خبايا المخطط الصادم

دعا خبير في التنمية الدولية إلى تقسيم سوريا لمناطق حكم ذاتي أو دويلات على أساس مذهبي أو عرقي على أن تكون ضمن إطار موحد وفقاً لترتيبات يقوم بها المجتمع الدولي، وطرح في مقال مطول مبرراته لهذه الفكرة الصادمة، زاعماً أنها الحل الوحيد للأزمة السورية.

وقال دينيس دراغوفيتش المحاضر بجامعة ملبورن بأستراليا والذي يعمل كخبيرٍ في التنمية الدولية لصالح وكالات الأمم المتحدة في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا في مقال بمجلة National Interest الأميركية: “لقد أصبح القضاء على تنظيم (داعش) في سوريا هاجساً غير صحي للدول الغربية، التي يتعامل الكثير منها في ظل افتراض أنَّ القضاء على داعش هو العقبة الوحيدة التي تحول بين تحقيق السلام”.

وأضاف أن هذا غير صحيح. فالتركيز على هزيمة داعش هو تحركٌ دون استراتيجية رأينا مثله من قبل، ويبدو أمراً مألوفاً لأي شخصٍ شارك في غزو وإعادة إعمار العراق، حيث قام تحالفٌ تقوده الولايات المتحدة بإزاحة صدام حسين دون خطةٍ متماسكةٍ لما سيحدث في اليوم التالي.

وقال: “تدفعنا خبراتنا في العراق كقادةٍ بارزين في المجال العسكري والإنساني للمطالبة بدراسةٍ متأنية لما هو قادم”.

وأضاف “إنَّ احتمالات استقرار سوريا أصبحت منخفضة. فقد غرقت البلاد حتى النخاع في بركةٍ لن تنتشلها منها حسن النوايا الدولية مهما بلغ حجمها، على حد قوله.

وزعم أن “سوريا” أصبحت في عداد الأموات. وسيكون الاستثمار في محاولةٍ لإعادة إحياء الوضع الراهن للدولة الموحدة في مرحلة ما قبل الحرب تصرفاً أحمق، سيؤدي لاستنزاف موارد هائلة، وزيادة معاناة الشعب، وتشتيت المجتمع الدولي عن السعي وراء الأهداف التي يُمكن تحقيقها، حسب قوله.

ورأى أن القدرة المحدودة للمجتمع الدولي (على مستوى الموارد والإرادة)، علاوة على المصالح الجيوسياسية المتضاربة، وعمق العداء بين عناصر الشعب السوري على أرض الواقع، تعني أنَّ أي استراتيجيةٍ قائمةٍ على العودة بسوريا إلى وضعها السابق سيكون مصيرها الفشل.

3 عوامل للنجاح

وقال الخبير الدولي: “بالرغم من أنَّ إعادة إعمار الأوطان في مرحلة ما بعد الحرب تبدو أمراً بعيد المنال، بالنظر إلى ما وصلت إليه العراق وأفغانستان من ضعف، تُظهر التقارير أنَّ النجاح يأتي بعد تحقيق ثلاثة أهداف: تحقيق شرعية الدولة، وتوفير الأمن للشعب، وتوفير الاحتياجات الأساسية.

وسيؤدي افتقاد أيٍ من هذه الأهداف إلى دوامةٍ من عدم الاستقرار والصراع المستمر. وسيكون القضاء على داعش أو إزاحة الأسد عن منصبه أمراً مُبرَّراً فقط في حال أصبحت إقامة دولةٍ شرعيةٍ ومستقرةٍ وفعالةٍ بعد الحرب ممكنة.

وأضاف: “نعتقد أنَّ الدروس المستفادة من العراق وأفغانستان تُشير إلى إمكانية تخطّي التحديات الكبرى فقط إذا ما أُعيد ترسيم الحدود، من أجل السماح للشعوب المختلفة بأن تقيم إداراتها المستقلة بطريقة توافقية، مدعومةً في ذلك من المجتمع الدولي، لأجل تحقيق الاستقلال.

وقال الخبير الأسترالي “ليست فكرتنا لتقسيم سوريا دعوةً لإعادة النظر في اتفاقية سايكس بيكو ومعاهدة سيفر اللاحقة –والتي رسمت خلالها الدول الغربية شكل خريطة الشرق الأوسط الحالية، متجاهلةً رغبات الشعوب المحلية- بل هي دعوةٌ للاعتراف بأنَّ الحدود ليست ثابتة وأنَّها وليدة التطور الدائم للتاريخ والثقافة والسياسة.

وتابع قائلاً: “سيقودنا المُضي قدماً على طريق الوضع الراهن في سوريا، في حال عدم الاعتراف بهذه التحديات والنظر بواقعيةٍ إلى احتمالية تحقيق السلام الدائم، إلى وضعٍ أكثر سوءاً”.

وزعم أن تقسيم الدولة السورية الحالية هو أفضل طريقة لتلبية مطالب المجموعات السورية المختلفة التي تطالب بالحكم الذاتي. وفي الوقت ذاته، سيعني ذلك الاعتراف بتغيُّرات المجتمع السياسي الدولي، الذي لم يعد مستعداً لتقبُّل مستوى الدعم الأجنبي اللازم لإنجاح الوضع الراهن.

هل يمكن لسلطةٍ شرعية أن تخرج من أطلال أكثر الصراعات تدميراً في هذا القرن؟

وتساءل الخبير الدولي هل يمكن لسلطةٍ سورية شرعية أن تخرج من بين أطلال ما يُمكن اعتباره أكثر الصراعات تدميراً في هذا القرن؟

وقال: “لا ريب أنَّ أنصار الانقلاب على الأسد وأولئك الذين يخوضون الحرب ضد داعش قد توصَّلوا إلى إجابة هذا السؤال بالفعل، لكن لا يوجد دليلٌ فعليٌ على أخذهم لإجابة هذا السؤال بعين الاعتبار.

وأضاف: “تسعى الأمم المتحدة للدفع بخطةٍ من ثلاث نقاط: حكومة تضم الجميع، ودستور جدي، وانتخابات رئاسية. لكن هل ستصل بنا هذه الخطة إلى سوريا المستقرة؟

هل تعطي الانتخابات الشرعية؟

ومضى في تساؤلاته: “هل يمكن لخطة الأمم المتحدة للسلام أن تسهم في التأسيس لحكومةٍ شرعية؟ بالنسبة للأمم المتحدة ومؤيدي خطتها، تُصبح الحكومة شرعيةً إذا أُجريت انتخابات وصدَّقت الدول الأخرى على نتيجتها.

وأردف قائلاً: “لا تزال سوريا، التي تُحارب نفسها منذ 6 سنوات، تحتفظ بشرعيتها الخارجية في نظر الأمم المتحدة وأعضائها، لأنَّ حلفاءها يعترفون بحدودها، هذا في حين أنَّ صوماليلاند أو أرض الصومال، التي تتمتع بالسلام والشرعية الداخلية منذ عام 1988، لا يُعترف بها دولياً كدولةٍ شرعية. وهذا التفضيل للشرعية الخارجية على الشرعية الداخلية هو فكرةٌ خطيرة مدفوعةٌ بسوء فهمٍ جوهريٍ لنوعية الشرعية التي تُسهم في تحقيق الاستقرار بشكلٍ أفضل.

ما مصادر الشرعية؟

يقول الكاتب: “وفقاً للمُنظِّر الاجتماعي البريطاني ديفيد بيثام، الذي يبني أعماله على الجهود التي بذلها آخرون من أمثال ماكس فيبر، فإنَّ للشرعية ثلاث ركائزٍ متشابكة: شرعية الصعود إلى السلطة، وتطويع هيكل الحكم ليتوافق مع العادات السائدة في المجتمع، والإجماع الشعبي بالموافقة على حكم النظام الجديد. وإذا لم تدعم آلية خطة السلام هذه الركائز الأساسية لتحقيق الشرعية، فإنَّها على الأرجح لن تُسفر عن نتائج مستقرة ودائمة.

وأضاف: “وبينما يُمكن تحقيق شرعيةٍ مفروضةٍ من الخارج عن طريق الضغوط العسكرية الضخمة على مختلف الفصائل، ستترك هذه النتيجة نقصاً في الشرعية الداخلية يُمكن أن تتلاعب به الجماعات المحلية والأجنبية. وهو ما يجعلها قاعدةً غير دقيقة، فكلما زاد نقص الشرعية، زاد العبء على المجتمع الدولي من أجل إحلال الأمن، وهو ما يستدعي توافقاً دولياً واستعداداً للتضحية بالدماء والأموال لملء فراغ الشرعية.

وقال إنه في ظل إصرار روسي مُتجدِّد، وولاياتٍ متحدة مرهقة من الحروب تحت حكم رئيسٍ يرغب في عددٍ أقل من جبهات الحرب الخارجية، أصبح الالتزام الدولي الجماعي المطلوب لتحقيق النجاح في سوريا بعيداً عن القدرة الجماعية لأي تحالفٍ دولي. فالالتزام بالقضية دون امتلاك الموارد اللازمة للنجاح سيؤدي إلى ترسيخ الصراع بتحويل الأصدقاء إلى أعداء، كما سيستنزف إرادة المجتمع الدولي للتحرك في أي مكانٍ آخر، ما سيقود على الأرجح إلى نتيجةٍ أكثر سوءاً للشعب السوري.

إغراء الفصائل المتحاربة

أما النهج البديل المتبع في إطار الوضع الراهن للدولة، من وجهة نظر الكاتب، فيتمثَّل في محاولة إغراء الفصائل المتحاربة في سوريا للتقارب وتشكيل تحالفٍ واسعٍ يحل محل حكومة الأسد. وقال “ورغم إمكانية تنفيذه، سيحتاج هذا النهج إلى التغلب على المبررات المتنافسة التي وضعتها كل مجموعةٍ للحفاظ على شرعيتها.

وأضاف أن الصراع في سوريا ليس مبنياً فقط على بُعدٍ واحدٍ مثل الطبقة الاجتماعية (كمبوديا)، أو العِرق (رواندا)، أو الهوية العِرقية الدينية (البلقان). بل تتنوع الدوافع الجوهرية للفصائل المتنافسة لتشمل العداء التاريخي والحرمان الاقتصادي والطموحات الوطنية والأصولية الدينية والعداء العرقي، لدرجة تجعل الالتزام الحقيقي بمناقشة إطارٍ مشترك أمراً مستحيلاً.

هل يمكن أن يجلس العلويون مع الإسلاميين؟

وتساءل: “هل نتوقع أن يجلس العرب السُنة من الحركات الإسلامية في سوريا مع العلويين الذين وصفوهم بأنَّهم أعداء الله؟ وهل نتوقع أن يسلم الأكراد مكاسبهم التي عانوا للحصول عليها، بعد أن أسسوا حكمهم الذاتي لأول مرة، إلى نظامٍ سيتفوق عليهم في العدد، إذا ما نظرنا بمنظورٍ عِرقي، في أي تحالفٍ يُقام في دمشق؟ إنَّ استثمار الموارد السياسية والعسكرية في تأسيس أشباه تحالفاتٍ لا يُمكنها أن تصل إلى توافقٍ وأن تظل معاً مستقبلاً، يُشتِّت الجهود بعيداً عن المناهج البديلة التي يُمكن تحقيقها على أرض الواقع.

الشرعية الفعلية

ويقول دينيس دراغوفيتش: “في الوضع الحالي ظهرت مراكز تجمُّعٍ طبيعية لجمهور الداعمين خلال أعوام الصراع الستة، يمتلك كل منها رؤيته الخاصة التي تبرر صعوده للسلطة. وتشمل هذه الرؤى هيكلهم للحكم بما يتوافق مع العادات الاجتماعية المقبولة، علاوة على حصولهم على الموافقة الشعبية بصورٍ مختلفة. فقد تحققت الشرعية في أعين سكان المناطق المختلفة مثل روج آفا (منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا) على يد الأكراد، وبعض المناطق العشوائية التي يسيطر عليها الأسد، علاوة على مناطق أخرى يُقال إنَّ الجماعات الإسلامية تُسيطر عليها.

واعتبر أن “هذه الشرعية هدية لأولئك الساعين إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، ويجب استغلالها. وعلى المجتمع الدولي أن يَكُف عن ملاحقة الشرعية القانونية الخارجية، ويعترف بالشرعية الداخلية القائمة والموجودة بالفعل في جميع أنحاء البلاد.

ويضيف: “أمَّا الجزء الثاني من السياسة الناجحة لإعادة بناء البلدان بعد الحرب، فهو توفير الأمن للشعب. ويمكننا البدء بالنظر إلى مستقبل الأمن الذي يتطلَّب القضاء على داعش والحفاظ على وحدة الدولة السورية.

وحذر من أن نقص الشرعية الذي تحدثنا عنه في الجزء السابق، مقروناً بالدعم الخارجي المستمر للوكلاء في سوريا، سيضمن استمرار الصراع الداخلي مستقبلاً.

هل يختفي داعش؟

وقال: “حتى مع هزيمة جيوش داعش وغيرهم من الإسلاميين المشابهين، لن يختفي فكرهم وقادتهم وأنصارهم ببساطة. فمثلما تحول أنصار صدام حسين للعمل تحت الأرض بعد هزيمة جيوشه، ستظهر كذلك جماعةٌ سنية متشددة عنيفة جديدة من تحت الأرض، مدعومةً من الخارج، وعلى نفس القدر من الخطورة.

وأضاف: “بالمثل، يُنظَر إلى فكرة إزاحة الأسد من السلطة على نطاقٍ واسع باعتبارها حلاً طويل الأمد، لكنَّ فعل ذلك سيدفع الأقليات إلى البحث عن رجلٍ قوي عِرقي آخر سيقوم بالتفاوض للحفاظ على الدعم الإيراني/الروسي، رغبةً في حماية شعبه”.

واعتبر أنه لا يوجد حلٌ يُبقي على الدولة مُوحَّدة ويمكن في الوقت نفسه من خلاله تسوية الصراع السعودي-الإيراني على الهيمنة الإقليمية. وعلاوة على ذلك، فإنَّ الدعوات لإقامة الدولة الكردية لن تختفي مطلقاً، وسواء حصلوا على وعدٍ صريح أو لم يحصلوا، تنتشر توقُّعاتٌ بين الأكراد بأنَّهم ستجري مكافأتهم على دورهم المحوري بعد هزيمة داعش مستقبلاً، ويُتوقَّع من المجتمع الدولي أن يفي بهذا.

وقال: “سيقع عبء حفظ السلام والأمن على عاتق المجتمع الدولي؛ إذ لا يوجد من بين الأطراف الأخرى المشاركة في الحرب الأهلية السورية طرفٌ تراه الفصائل الأخرى محايداً: على الرغم من أنَّ القوات المجندة محلياً قد تتمكن من فرض إطار أمنيٍ دولي، فسيقتصر تواجد هذه القوات غالباً على المناطق منخفضة التهديد ذات التوتر العرقي والطائفي المنخفض.

كم تحتاج سوريا من جنود لفرض الأمن؟

يقول الكاتب: “يُقدَّر عدد سكان سوريا حالياً بحوالي 22.8 مليون نسمة (بمن فيهم اللاجئون المُشرَّدون). ووفقاً للقاعدة المتعارف عليها التي تقول بأنَّ مكافحة عصيانٍ من جانب ألف شخص يتطلب 20 عنصراً أمنياً على الأقل لمواجهتها، تحتاج سوريا لحوالي 450 ألف ضابطٍ لتحصل على فرصةٍ جيدة لتحقيق الأمن والاستقرار بعد الحرب الجارية”.

وأضاف: “حتى في حال تجنيد ثلثي هذا العدد محلياً (وهو ما سيستغرق وقتاً كبيراً قبل أن يصبح أولئك المجندون مدربين ومنظمين، كما رأينا في العراق)، سيحتاج المجتمع الدولي إلى توفير 150 ألف مجند آخرين: وهو الرقم الذي يساوي أعلى مستوى من المجندين الذين جرى نشرهم في العراق بعد عام 2003”.

ويتطلب مثل هذا الالتزام الدولي الضخم تفويضاً من الأمم المتحدة لتوفير الشرعية المطلوبة للتدخل. وهذا يتطلب أيضاً نهجاً متفقاً عليه تجاه سوريا، خاصةً بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو النهج الغائب حالياً بشكلٍ ملحوظٍ، ومن غير المحتمل أن يجري التوافق عليه في المستقبل القريب.

لا أحد سيشارك

وقال إذا نجح مجلس الأمن في الأمم المتحدة في التوصل إلى توافقٍ بشأن سوريا، سيظل من الصعب توفير القدرة البشرية اللازمة لمثل هذا المجهود الدولي الضخم. ومن غير المحتمل أن توافق معظم الدول الأوروبية، بعد عقدٍ من الحروب في أفغانستان والتزامها المكلف بالحرب في العراق، على التطوُّع لمثل هذا الالتزام الخطير الذي ينطوي على نهايةٍ مُحدَّدة.

وأضاف: “وتمتلك القوى الإقليمية، مثل تركيا والسعودية وإيران، مصالح خاصة للتأثير على تسوية ما بعد الحرب لمصلحتها الشخصية، ولذا سيكون من الخطر الاعتماد عليهم في تطبيق اتفاق سلامٍ متوافق عليه دولياً.

وينظر الكثيرون في الغرب إلى روسيا، حامية سوريا التقليدية وحليفتها خلال الحرب الباردة، بكثيرٍ من الحذر. ولذا، لا توجد خياراتٌ جيدة أو سهلة لإحلال الأمن بعد تسويةٍ سلمية في سوريا كدولةٍ موحدة داخل حدودها الحالية.

ولكنه استدرك قائلاً: “في حال قررنا النظر في حل إعادة رسم الحدود، ستتغير نظرتنا إلى الوضع الأمني تماماً. ففي تلك الحالة، ستعكس الإدارات الذاتية -التي تسعى للاستقلال الكامل على المدى الطويل- الحدود الفعلية التي ظهرت على مدى ست سنواتٍ من الصراع”، حسب قوله.

وقال إن “الدول الاتحادية أو المستقلة الجديدة ستمتلك قدرةً على توفير السلام الداخلي أكبر من الخليط الحالي من الأعراق والمصالح والمعتقدات. وسيكون من السهل على الحكومات الجديدة توفير الأمن لشعوبها؛ إذ ستختفي مصادر انعدام الأمن بشكلٍ كبير.

واعترف بأن الخلافات السياسية ستظل قائمةً في الدول الجديدة، كما رأينا في حكومة إقليم كردستان شمال العراق أو بين أحزاب الشيعة في بغداد، لكنَّ هذه الخلافات على الأغلب سيتم حلها سياسياً وليس عن طريق مستوياتٍ متطرِّفة من العنف، وذلك نظراً لأنَّ الصراع بين المجموعات المتجانسة يحد من نفسه بنفسه أساساً. فهم يقبلون شرعية الدولة، لكنَّهم يسعون لتغيير الحكومة، بدلاً من تدمير كيان الدولة، الذي يُعَد هدفاً قائماً لعددٍ من الفصائل المتحاربة حالياً في سوريا.

كيف ستقسم الدولة؟

وزعم الكاتب أنه “يوجد عددٌ من الدول الجديدة التي يُمكنها أن تدَّعي امتلاكها للشرعية الداخلية بين الشعب السوري. وغالباً ستظل هناك مجموعةٌ كُبرى تضم معظم العلويين الذين سيدينون بالولاء لأشلاء دولة دمشق. ويُمكن للأكراد في روج آفا أن يحصلوا على الشرعية الكافية لإقامة دولتهم المستقلة في الشمال، كما يُمكن للسُنة أن يفعلوا ذلك في الشرق.

رأى أنه من الممكن أيضاً أن ينجح التحالف العسكري الحالي بين وحدات حماية الشعب الكردية والعرب السُنة وغيرهم من قوات سوريا الديمقراطية في الحصول على الشرعية الكافية بين الشعب ليؤسسوا لإقامة دولةٍ متعددة الأعراق في شمال وشرق سوريا.

وقال “وبغض النظر عن الدول الجديدة أو المناطق ذاتية الحكم التي ستنشأ مستقبلاً، سيحتاج كلٌ منها إلى قواته الأمنية الخاصة التي تدين بالولاء للدولة، فضلاً عن احتياجها لدعم شعوبها”.

وأضاف “ويمكن للقوات المسلحة السورية الحالية أن توفر أساسات الأمن لبقايا دولة دمشق الجديدة. أمَّا وحدات حماية الشعب وغيرها من المجموعات الكردية، فبإمكانهم أن يتطوروا ليشكِّلوا قوات أمنٍ وطنية لأي دولةٍ كرديةٍ جديدة.

الدولة السنية

أمَّا العنصر الثالث في المعادلة، من وجهة نظره فهي الدولة السُنية الجديدة الكبرى، فيتمثَّل التحدي الأكبر في محاولة الحفاظ على أمنها الذاتي، نظراً لوجود العديد من المجموعات السنية المعارضة التي تتنوع أطيافها من داعش وصولاً إلى الجيش السوري الحر الأكثر علمانية. وهنا ستظهر الحاجة إلى الدعم الدولي لإنشاء قواتٍ أمنيةٍ مسؤولةٍ وممثلةٍ للبلاد.

وقال: “يُمكن للدول السنية الإقليمية أن تمتلك تأثيراً إيجابياً في الدولة السنية الجديدة مستقبلاً، وذلك بعدما أدى تدخلها الحالي في سوريا الموحدة إلى تداعياتٍ سلبيةٍ عديدة. فيُمكن دعوة الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية، أو الإمارات العربية المتحدة، أو مصر، أو الأردن لتولي زمام المبادرة في بناء البنية التحتية للأمن في الدولة السُنية الجديدة.

لكنَّه يستدرك قائلاً “الأمر لن يكون سهلاً. فإذا تشكَّلت الدول الجديدة داخل حدود سوريا الحالية، ستكون اثنتان منها على الأقل مناقضةً للأخرى تماماً؛ ستكون الأولى منهما مكونة في غالبيتها من السُنة والثانية من العلويين”.

وأضاف أنه “من المتوقع أن تحصل كلٌ منهما على الدعم السياسي والاقتصادي من رعاتها (السعودية وإيران على الترتيب)، الذين سيرغبون في استغلال تلك الدول كوكلاء في صراعهم الإقليمي الشخصي. حينها ستكون تكلفة تخفيف التوتر داخل الدولة هي زيادة التوترات بين الدول الجديدة.

وتابع قائلاً: “في هذه الحالة، سيكون المجتمع الدولي أمام خيارين. الأول، هو بذل مجهوداتٍ دوليةٍ ضخمة، دون نتائج مضمونة، لإحلال الاستقرار في الدولة السورية القائمة بمستويات الصراع الداخلي وانعدام الاستقرار الحاليين. والثاني، هو تشجيع فكرة إنشاء دول جديدة، تتمتع بالسلام الداخلي، لكنَّها ستؤسس في الوقت نفسه للكثير من التوترات فيما بينها”.

وأكد أن تاريخ المجتمع الدولي في الحفاظ على السلام بين الدول أفضل بكثيرٍ من جهودها لإقامة السلام داخل الدول. فهذا هو ما أُسِّست الأمم المتحدة لفعله؛ فالقوانين والآليات الدولية مُصمَّمة بدرجةٍ كبيرة لحل الخلافات بين الدول والحد من الصراعات فيما بينها.

وتابع: “ربما يكون على المجتمع الدولي الاستعداد لوضع آلياتٍ خاصةٍ لإحلال الاستقرار في العلاقات بين الدول الجديدة، واستدرك قائلاً “ولن يكون الأمر سهلاً، لكنَّ تحقيقه سيكون أسهل من محاولة فرض الأمن الداخلي في الدولة المنقسمة حتى النخاع التي أصبحت عليها سوريا اليوم”.

العراق نموذجاً لما يجب تجنبه

ولفت إلى أن الوضع في العراق يُظهِر كيف يُمكن لحكومة الأغلبية المنتخبة أن تُميِّز ضد الأقليات. فبعد فوز الأحزاب الشيعية بالانتخابات عام 2005، بدأوا في تعيين الشيعة في المناصب الحيوية بالدولة، ومنح العقود للشركات الشيعية، والتأكد من ترقية الضباط الشيعة لأعلى الرتب في مختلف المؤسسات الأمنية، والأهم من ذلك هو أنَّ إعادة إعمار البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية أصبح متركزاً في المناطق ذات الأغلبية الشيعية بالعراق.

واعتبر أن هذا التحيز المدفوع بشعورٍ من الظلم العميق والرغبة في الانتقام مما حدث في الماضي، أحد أسباب اختيار الكثير من السُنة دعم الجماعات المسلحة المتشددة للحفاظ على الانتفاضة القائمة: فقد شعروا بالحرمان من حقوقهم في عهد الحكومة الجديدة.

وقال: “مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ السنة يُشكِّلون 74% من سكان سوريا، فما هو مدى التأثير الذي يمتلكه المجتمع الدولي لمنع حكومةٍ سنيةٍ منتخبةٍ ديمقراطياً من الحُكم بغرض الانتقام مما حدث في عهد الدولة الموحدة السابقة؟ إذا حدث هذا، نعتقد أنَّ رد العلويين والمسيحيين سيُماثل رد السنة في العراق: شعورٌ بالحرمان سيؤدي إلى دعم التمرد”.

ورأى أن العراق يوفر دراسة حالة هامة تكشف كيف يُمكن لضعف الأوضاع الأمنية أن تعرقل عملية إعادة الإعمار. فقد قامت الميليشيات والجماعات الإرهابية، من السُنة والشيعة، بتعطيل جهود إعادة الإعمار عمداً في العراق، بما في ذلك الهجوم على شبكات توزيع الكهرباء والبنية التحتية للنفط، بغرض تقويض سلطة الحكومة القائمة، نتيجة زيادة الشعور بخيبة الأمل في النظام الجديد وتعزيز الدعم الذي يحصلون عليه كبدائل للنظام.

هل يمكن لسوريا أن تعود لوضع ما قبل الحرب؟

وقال الخبير الدولي إن العودة إلى الوضع في سوريا لما كانوا عليه قبيل الحرب سينتج عنه دون شك مستوياتٌ عاليةٌ من العنف الداخلي الذي سيعيق محاولات توفير الاحتياجات الأساسية للشعب.

وأضاف “على العكس، فإنَّ إقامة الدول المستقلة ستُحسِّن من الأمن الداخلي بشكلٍ كبير، وهو ما يعني ضمان وصول الاحتياجات الأساسية للشعب بشكلٍ أفضل. فعلاوة على تقديم خدماتٍ أفضل لمواطنيها، لن تتعرض أي حكومةٍ لتهديدٍ من جماعات الأقليات التي ستختار البقاء، لأنَّ طموحات تلك المجموعات يُمكن تحقيقها في الدول المجاورة.

ومضى الكاتب في محاولة لترويج أطروحته قائلاً: “إن هناك مخاطر لإعادة رسم الحدود، لكنَّنا نعتقد أنَّها ستظل موجودة أيضاً في حال بقي الوضع الراهن على ما هو عليه. وسنقوم هنا بالرد على الحجج الأربعة الرئيسية التي تُعارض تقسيم سوريا.

الحجة الأولى المعارضة لتغيير الحدود هي المخاوف من حدوث هجرةٍ جماعيةٍ للأقليات المتبقية بطريقةٍ تُشبه تقسيم الهند الدموي. وفي حين تُشكِّل هذه المخاوف خطورةً كبيرة –رغم محدودية أهميتها نظراً لحركة السكان القائمة بالفعل- إلّا أنَّه يجب التعامل معها كتحدٍ يُمكن التغلُّب عليه بمساعدةٍ دولية، والعمل مع كل دولةٍ جديدةٍ على حدة من أجل التأكد من حماية الأقليات بها.

وأضاف “بينما يرى الكثيرون أنَّ الدولة السورية الموحدة ستسمح للأقليات بالعودة إلى منازلهم وأنَّ دمشق ستتمكن من النهوض سريعاً لتعود مدينةً عالميةً كما كانت؛ تشير خبرات ما بعد الصراع في العراق والبوسنة إلى عكس ذلك”.

وناقش الكاتب حجة أخرى ترى أنَّ التوازن الجيوسياسي في المنطقة سيتزعزع بإنشاء دولٍ جديدة. متوقعاً حدوث العكس باعتباره التفكير الأكثر واقعية. فنظراً للتغيُّرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والتي حدثت نتيجة تحول السلطة في العراق من السنة إلى الشيعة وتداعيات الربيع العربي، أصبحت السيطرة على سوريا هدفاً حاسماً لجميع أطراف الصراع في المنطقة.

وبتقسيم سوريا، تحقق جميع القوى الإقليمية المتنازعة جزءاً من طموحاتها، ما يقلل احتمالية وقوع حربٍ أكبر بعد تضاؤل دواعي الدخول في الحرب، بحسب قوله.

أما السبب الثالث وراء خوف البعض من إعادة رسم الحدود، وفقاً للكاتب، فهو الصعوبة المتوقعة لتحديد مواقع تلك الحدود. وكونه تحدياً كبيراً.

ويقول “توجد سابقةٌ يُمكن أن نحذو حذوها في هذا الشأن، وتتمثَّل في حدود المناطق ذاتية الحكم داخل البوسنة والهرسك. إذ أدَّت العملية المتكررة لرسم وإعادة رسم الحدود إلى تقليل حركة السكان الزائدة، وذلك بعدما رُسِمت الحدود حول الأراضي التي يُسيطر عليها كل فصيل، مع أخذ الضرورات التاريخية والثقافية بعين الاعتبار”.

ورابع المخاوف التي أثارها المعارضون لهذا النهج هي أنَّه سيؤدي لمكافأة الحكام الديكتاتوريين والمتحاربين: إذ يرون أنَّ هذا النهج سيضفي الشرعية على استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ويفتح الباب لإقامة دولةٍ سُنية أصولية ستفشل في احترام أبسط حقوق الإنسان.

وعلق قائلاً: “ورغم أنَّ هذه المخاوف ربما تكون في محلها، ولكنه لا يُمكننا أن نحتجز شعباً كاملاً كرهينةٍ لأنَّنا نشعر بالضيق من الطريقة التي يتصرف بها قادتهم”. واعتبر أن الحدود الدقيقة يجب أن تأتي نتيجة المفاوضات بين الفصائل السورية تحت إشراف الأمم المتحدة.

كيف يمكن التعامل مع تركيا والعراق؟

ولفت إلى أن أي تغييرٍ في الحدود السورية بهذه العملية سيكون له تأثيرٌ على الدول المجاورة، وتحديداً العراق وتركيا. إذ إنَّ القبائل الموجودة على الحدود السورية-العراقية معظمها من السُنة، وربما يجادل البعض قائلاً إنَّه من المنطقي لأي دولةٍ سنيةٍ جديدةٍ أن تحكم كلا الجانبين.

وقال إنه رغم اختلاف أكراد سوريا سياسياً عن أكراد العراق، خاصةً في علاقتهم بحزب العمال الكردستاني في تركيا، سيرى كلا الطرفين مصلحةً مشتركةً في أي صورةٍ من صور الوحدة أو الاتحاد.

وأضاف: “لكن أي خطوةٍ تضم أجزاء من الأراضي العراقية إلى الدول الجديدة يجب الفصل بينها وبين عملية تقسيم سوريا. وبموجب الدستور العراقي، يصبح الأمر حينئذ شأناً داخلياً للمحافظات العراقية منفردةً؛ إذ يمكنها أن تختار التحوُّل إلى مناطق ذاتية الحكم أولاً قبل أن تنضم، ربما، إلى إحدى الدول الناشئة مستقبلاً”، حسب قوله.

واعترف بأن هناك بعض المخاوف من أنَّ إقامة دولةٍ كرديةٍ جديدةٍ على الحدود الجنوبية لتركيا سيساهم في زيادة تعقيد العلاقة السيئة بين أنقرة ومواطنيها الأكراد، وتحديداً بسبب العلاقة القوية بين أكراد سوريا وحزب العمال الكردستاني. وليس من المتوقع أن ترحب تركيا بمثل هذا التطور. لكن هناك بالفعل دولةٌ كرديةٌ قائمةٌ في شمال سوريا، وسيؤدي حرمان مواطنيها من حكمهم الذاتي الذي كافحوا من أجله إلى توتراتٍ مكلفةٍ تغلى ببطءٍ في المنطقة، حسب قوله.

ورأى أن التعامل مع مخاوف تركيا يجب أن يكون أولوية كبرى للمجتمع الدولي، من أجل منع أنقرة من استخدام حق الفيتو ضد هذا القرار الذي يُمثِّل أفضل فرصةٍ للسلام على المدى البعيد في سوريا.

وقال: “إن ما نراه هو أنَّ القضاء على داعش أو الأسد يجب أن يحدث فقط في حال كانت هناك إمكانية لإقامة دولةٍ شرعيةٍ ومستقرةٍ وفعالة بعد الحرب. وأوضحنا أنَّ هذه الإمكانية غير ممكنة، ناهيك عن أنَّ عواقب السعي وراء هذا الهدف ستكون أكثر تكلفةً من الخيارات البديلة.

واعتبر أن الخيار الأكثر استدامةً وأقل تكلفةً من ناحية المعاناة الإنسانية هو: إعادة رسم الحدود. ولا يجب النظر إلى الأمر باعتباره جزءاً من مخططٍ ضخمٍ لبناء شرقٍ أوسط جديد، بل النظر إليه باعتباره فرصةً نادرةً لإعادة تشكيل سوريا وكسر دائرة العنف الشديد.

وأضاف أنَّ الاعتراف بالتغيُّرات الديموغرافية على الأرض والاعتراف بإرادة الشعب للعيش منفصلاً عمن حاربوه أو عانوا ظلماً في عهده وفهم المكاسب الجيوسياسية للدول الصغيرة، يجعل الخيار واضحاً وجلياً: يجب تقسيم سوريا.

* دينيس دراغوفيتش: محاضر في جامعة ملبورن بأستراليا ويعمل كخبيرٍ في التنمية الدولية لصالح وكالات الأمم المتحدة في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.

هف بوست


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.