أزمة الدواء في السودان.. سياسة رعناء وصيدلي كبش فداء

الدواء من أهم احتياجات الإنسان، وقد يأتي قبل الغذاء، والكساء، وكثير من الاحتياجات الأخرى، بمقدور الإنسان إن زاد سعر الغذاء، أن يكتفي برغيفين مثلًا بدلًا من ثلاثة، وقد يكتفي بقميص بدلًا من اثنين، وقد يقلل من استهلاكه من الكهرباء؛ بإطفاء لمبات، ومصابيح، غير أساسية في منزله، ويكتفي بالضروري منها.

فكلها احتياجات يمكن توفيرها، أو إيجاد بديل لها، إن زاد سعرها، أو ندر وجودها؛ إلا الدواء فليس بمقدور أحدنا بتاتًا، إن وصف له الطبيب دواءً لأحد أسقامه أن يكتفي بشريط بدلًا من شريطين، أو حقنة بدلًا من حقنتين، وإلا فلن يبلغ الشفاء؛ فالدواء هو السلعة الوحيدة، التي لا يمكن فيها التوفير، ولا يستطاع فيها التقليل، والاقتصاد.
الفشل الحكومي والتدهور الاقتصادي

معلوم لدى الجميع، الحال الذي وصل إليه اقتصاد السودان، من تدهور، وتقهقر مريع، بعد انفصال الجنوب، وذهاب ثلثي احتياطي النفط، مع ذهاب أراضيه؛ وبالتالي ذهاب ثلثي إيرادات الموازنة العامة.

من الأسباب الرئيسية لهذا التدهور، والأقرب للانهيار؛ هو أن الحكومة السودانية اعتمدت في اقتصادها بصورة شبه أساسية، على النفط، باعتباره مصدرًا للعملة الأجنبية، وأهملت الزراعة، المصدر الأكثر مواءمة لطبيعة السودان، والمورد غير الناضب، مقارنة بالنفط؛ وهي بذلك لم تتحسب لفقدانه مع انفصال الجنوب.

الحكومة كذلك أهملت الصناعة؛ وهي الركيزة الأساسية للإنتاج، لكل دولة تريد النهوض، ثم فشلت في الاستفادة من الإنتاج الكبير من الذهب، لم يكن له أثر يذكر على الاقتصاد؛ بسبب تسربه بعيدًا عن النظام المصرفي الحكومي، أضف إلى ذلك الفساد الحكومي الكبير، الذي أدى لنهب ثروات كبيرة، لهذا البلد، باعتراف الحكومة.

ويأتي في نهاية الأسباب، تبديد الجزء الأكبر من موازنة الدولة، بتخصيصها للجيش، والأمن؛ للتعامل مع أزمات، وحروب نشأت جلها؛ نتيجة لممارسات سياسية خاطئة، من النظام الحاكم.

كل هذه الأسباب، وغيرها؛ أدت إلى تضخم كارثي في الاقتصاد السوداني، مما نتج عنه تراجع للعملة المحلية، أمام الدولار؛ بسبب ندرة الأخير في الأسواق، والمصارف، نتيجة للسياسات الاقتصادية المذكورة، التي جعلت اقتصاد الدولة، قائمًا على الاستهلاك والاستيراد، وليس الإنتاج والتصدير، حتى وصلت العملة من جنيهين أمام الدولار في 2008، إلى 35 جنيها في عام 2018، وهو تراجع لا يصدق، وانهيار كارثي بكل المقاييس.
10% من حصيلة الصادر لا تكفي فأوقفت

بعد تضاعف سعر صرف الدولار، ووصوله إلى 17 جنيهًا نهاية 2016، تضخمت أسعار السلع كلها، ولم يكن الدواء استثناءً منها، فهو بدوره قد زادت أسعاره، بصورة كبيرة، نتيجة لتأثره المباشر بزيادة سعر الدولار؛ لأن أكثر من 60% من الدواء في السودان، يستورد بالعملة الصعبة، والباقي يصنع محليًا، ولكن من خلال مُدخلات إنتاج، ومواد خام تستورد هي الأخرى، إضافة لفشل الإمدادات الطبية؛ للقيام بدورها، وهي الجهة الحكومية المسئولة، عن توفير الأدوية الضرورية، والأصناف الباهظة، للسوق الصحي السوداني.

لدعم دولار الدواء، باعتباره السلعة الأكثر حرجًا؛ لعلاقته بصحة الإنسان، وإنتاجيته؛ كانت الحكومة السودانية تخصص 10% من حصيلة دولار الصادرات – غير البترولية – بسعر البنك، لشركات الأدوية، حتى تستورد به أصنافها؛ فيحافظ الدواء على أسعار، لا تتأثر بتضخم سعر الدولار، في السوق الموازي.

هذه السياسة كانت توفر ما يقارب 200 مليون دولار، في حين أن التقديرات، تشير أن سوق الدواء يحتاج ما لا يقل عن 400 مليون دولار سنويًا، ورغم عدم كفاية هذه الحصيلة من الدولار؛ للإيفاء بكل الاحتياجات، مما اضطر كثيرًا من شركات الأدوية، لشراء دولار إضافي من السوق الموازي، وتحمل الفرق والخسارة، إلا أن الحكومة السودانية، بدلًا من زيادة هذه الحصيلة المدعومة، قررت إيقاف هذه السياسة تمامًا.

ساسة بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.