يا ست العربية!!

د . عبد الماجد عبد القادر
عندما كنا طلاباً في الجامعة في السبعينات كان الرئيس نميري رحمه الله يقود عربته الخاصة وفي بعض الأحيان بنفسه دون الاستعانة بالسائق.. وكان يركب عربة “فلكسواجن” وكثيراً ما كان يفاجئنا في كلية الزراعة خاصة في احتفالات أسبوع المزارع.. وكان الرجل يأتي من دون سابق إنذار أو دعوة ومن دون جوطة أو هيصة ومن دون – البتاعات البتكورك دي – ونفاجأ بأنه دخل في نصنا.. والرجل كان يقتحم التجمعات الشعبية ويمتاز بكثير من الشجاعة وتجده يتفاعل مع الجمهور ويختلط بهم ولهذا فقد أحبه الكثيرون فعلاً.

وفي ذلك الوقت 1972م يبدو أن الحكومة قد استوردت عشرين سيارة إنجليزية ماركة هنتر والهنتر الآن عربية شينة جداً كلها تعمل في التاكسي لأنها قوية جدًا ولا تستهلك اسبيرات.. ويبدو أن الرئيس نميري كان من نصيبه أن يقود سيارة هنتر بدلاً من الفلكسواجن.. وكنا مع ذلك ونحن طلاب بالجامعة نهتف ضده قائلين “راكب الهنتر وعامل عنتر”، ومرة أخرى كان الرئيس نميري لا يترك الهجوم علينا من وقت لآخر ليعطي رسالة لباقي الجامعة، وكان يفضل الهجوم على كلية الزراعة لأن أعداد الطلاب كانت محدودة ولأن كلية الزراعة كان معروفاً عنها تاريخياً القيام بعمليات الشغب واحتلال الجامعة حتى إن من بين الدعايات المتواترة أن اولاد شمبات عندما يحضرون للجامعة لأغراض الاحتلال كانوا يحرسون البوابات الرئيسية والمداخل والمخارج ويأمرون أولاد الآداب والبنات والحناكيش من الطلبة أن يبقوا في الداخل قريباً من قهوة النشاط.
في ذلك الزمن كانت السيارات الإنجليزية القوية هي السائدة في المجتمع وتليها المارسيدس ومؤخراً جداً في نهاية السبعينات ظهرت الماركات اليابانية.. وقد كانت هناك قيود صارمة جداً تمنع استيراد السيارات البذخية والفارهة، وتتجه نحو استعمال البصات التي تنقل أعداداً كبيرة من المواطنين.. ولعل ذلك لم يكن غريباً فقد كانت كل بلاد الله ولازالت تعتمد على القطارات والمترو والنقل الجماعي، فإذا ذهبت إلى أي بلد متحضر في أوروبا فلن تجد تلك الظاهرة القبيحة التي تلاحظ فيها شخصاً واحداً فقط “متفرجخ” ومنجعص في لاندكروزر طويلة أربعة أمتار في ثلاثة أمتار ومن ورائه عشرة كراسي فاضية، وهاك يا تكييف مركزي وهاك يا ساوند سيستم.. وقد تجد امرأة واحدة فقط (منجعصة) في سيارة حدادي مدادي ومطلعة يدها برة الباب عشان تورينا الدهب الجابوهو ليها والحنة.. وعملوا ليها أغنية “ست العربية” والشركات والمؤسسات في تلك البلدان المتقدمة ينتقل مدراؤها العامون بالبصات أو “اللاندروفرات” أو القطارات.. وتجد مديري البنوك وربما الوزراء وكبار موظفي الدولة وهم يقومون فجراً ليحصلوا القطار ويقعدون هادئين ويفتحون كتبهم أو “لاب توباتهم” لستفيدوا من الزمن.. وحتى لو كانت عندهم سيارات خاصة فهم يتركونها للاستعمال الطارئ إو في إجازة نهاية الأسبوع.. وكل سياراتهم من النوع الصغير جداً قليل الثمن وجيد الصناعة وقليل التكلفة التشغيلية وطويل العمر.. لن تجد هناك هذه “الفشخرة” و”العنطزة” و”الفنطزة” والبوبار الفارغ، هؤلاء الناس عمليون جداً.. ويضحكون علينا كثيراً عندما يزورون بلادنا.. أنهم ربما يستغربون كيف أن بعضنا يمتلك لاندكروزر أو كامري وباترول وهو يسكن في بيت متواضع من الطين والحملان والعتان تبرطع فوق السيارة في الحلة.
وأخيراً نقول إن على الدولة أن توقف استيراد السيارات فيما عدا الشاحنات والبصات لأغراض النقل العام وأن تدعم صناعة السيارات المحلية مع شركة جياد وأن تعمل على إعادة تصدير ملايين السيارات الفارهة التي ملأت الميادين والمخازن والطرقات وأن تلزم الحكومة وزراءها وكبار موظفيها باستعمال سيارات صغيرة تقليلاً للتكلفة وأن تسرع في إنشاء شبكة قطارات لترحيل المواطنين بدلاً من السيارات الفارهة.. وعلى وزارة التجارة والمالية أن تقوم بتشكيل لجنة لحصر السيارات المستوردة ومقترحات التخلص منها وبيع القديم في شكل حديد خردة، وأن يعمل البنك المركزي على إصدار منشور لإيقاف تمويل استيراد أي سيارات لأي غرض وعدم التعامل في هذا المجال حتى لو كان من الموارد الخاصة.. ومن المؤكد أن أي سيارة فارهة قيمتها ثلاثمائة مليون جاءت بتمويل بالعملة الحرة وأتت على حساب التنمية الزراعية والصناعية ومثلت مسماراً تم دقه في نعش الاقتصاد القومي.. ومع ذلك نتساءل العملة الحرة ما في وراحت وين؟! ونحن نقول لهم إنها “شالتها” العربات الفارهة التي ربما يبلغ عددها أربعة ملايين عربية وتكلفتها تقارب “ثمانين” مليار دولار وقاعدة ساكت بدون فائدة.
ونهنئ السيدة ست العربية الفارهة التي التي يبلغ ثمنها كذا مليار جنيه بالقديم ونؤكد بأن هذا الموضوع ليس له أي علاقة بأزمة الوقود الحالية.

الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.