ختان الإناث في المحكمة

ختان الإناث في المحكمة
محمد طلبة رضوان

أخيرا، ختان الإناث جريمة يعاقب عليها القانون. حكم تاريخي قضت به محكمة جنايات شبرا الخيمة (شمال القاهرة)، بمعاقبة أب، بالحبس ثلاث سنوات مع الشغل، وممرّض بالسجن المشدّد عشر سنوات، لاشتراكهما في جريمة ختان ابنة المتهم الأول. والحكم، الأول من نوعه في المحاكم المصرية، يعني الكثير، فهو نتاج نضالاتٍ متواصلة لعلماء وشيوخ وباحثين ومثقفين وأطباء وصحافيين وإعلاميين وفنانيين ضد هذه الجريمة التي وجدت، تاريخيا، ما يسوّغها اجتماعيا ودينيا، بل وطبيا! ومن المهم، هنا، أن نفهم كيف تجاوزنا ذلك كله ووصلنا إلى محطّة التجريم، ومن ثم كيف يمكننا أن نفعلها مع جرائم أخرى ما زالت تجد ما يبرّر وجودها بوصفها طبيعة الأشياء؟
يجري تصوير قضية الختان أنها معركة بين طرفين: شيوخ الدين (المحرّضين الداعين إلى الجريمة) والمثقفين التنويريين (المقاومين لها)، وهي صورة مضلّلة، جملة وتفصيلا، روّجها منتجو خطاباتٍ سجاليةٍ شعبوية على الطرفين، وتغذّوا عليها. والحقيقة أن “مشايخ” تقليديين، محافظين وإصلاحيين، ساهموا بقدر كبير في إنتاج خطاباتٍ مناهضةٍ لجريمة الختان، مفكّكة للأحجيات الدينية المتهافتة التي تسندها، مهاجمة للاتجاهات التعصّبية التي تروّجها، مدافعة عن حقوق المرأة الجسدية، لكنها خطاباتٌ تغيب في النقاشات العامة، الآنية، عن جريمة الختان، لصالح خطاباتٍ تبنّاها آخرون، على هامش الظاهرة الدينية، جرى استدعاؤهم إلى المتن، والاستثمار في شعبويتهم. وباستثناء كتابات نوال السعداوي ومحمد فياض، لا تجد اشتباكا نقديا “جادّا” مع الموروث الاجتماعي والديني المتعلق بالختان إلا لدى “المشايخ”!، بل لا أبالغ إذا قلت إن الختان من القضايا القليلة التي تصدّى لها “شرعيون” من مختلف التيارات الدينية، وليس التيار الإصلاحي أو العقلاني فحسب، تجد ذلك في كتابات أزاهرة كثيرين، مثل عضو جماعة كبار العلماء، الشيخ محمد عرفة، في مقال له بمجلة الأزهر (عدد 10 عام 1952)، لا يرى فيه بأسا من منع الختان، بناءً على آراء علماء الشرع، جنبا إلى جنب مع علماء وظائف الأعضاء، وعلماء الاجتماع، وشيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت خصوصا في فتواه الثانية حول الختان في 1959، وفيها استعرض الآراء التراثية الداعمة للختان، ليخلص إلى أنه “ليس فيها ما يصحّ أن يكون دليلا على السنة الفقهية، فضلا عن الوجوب الفقهي”. وتابعه في هذا الشيخ يوسف القرضاوي، في فتوى أكثر تفصيلا صدرت في سبعينيات القرن الماضي، ونشرها الشيخ في الجزء الأول من كتابه “فتاوى معاصرة”. وفتوى الشيخ حسن أحمد أبو سبيب (1984)، وفيها ينتصر للرأي الطبّي، ويؤصل لمكانته في التشريع الإسلامي. وفتوى شيخ الأزهر محد سيد طنطاوي (1994)، وفيها أشار إلى رأي الإمام الشوكاني في كتابه “نيل الأوطار”، الذي استعرض الأحاديث الواردة في الختان، وحكم عليها، كلها، بالضعف، بعد الكلام المفصّل عن أسانيدها، وذكر قول الإمام ابن منذر: “ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع”. وفتوى محمد سليم العوا (1994)، وفيها أشار إلى رأي الشيخ محمد الصبّاغ (وهو سلفي حنبلي!)، في كتابه “الحكم الشرعي في ختان الذكور والإناث”، ورأي الشيخ سيد سابق، صاحب “فقه السنة” (وهو من الإخوان المسلمين)، والذي يرى أن “أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصحّ منها شيء”.
ولو اتسعت المساحة هنا لأضفت عشرات المشايخ، التقليديين، المحافظين والإصلاحيين، وكتبهم وبحوثهم وفتاواهم، على امتداد القرن الماضي، والربع الأول من القرن الحالي. والسؤال: لماذا تأخّرت الدولة المصرية في التجريم “الجاد” لجريمة الختان أكثر من سبعين عاما؟ لماذا سبقتها فتاوى مشايخ الأزهر ووزارة الأوقاف وجماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين المستقلين، وحتى السلفيين؟ لماذا تقاعست عن دورها في دعم هذه الخطابات، تشريعيا وقانونيا وتنفيذيا وإعلاميا؟ لماذا تماهت الدولة “الوطنية” مع أكثر الخطابات رجعيةً وراديكاليةً ضد المرأة المصرية، وتذرّعت برأي الدين، وثقافة المجتمع، وقد رأينا أن أغلب علماء الدين ضد الجريمة، كما أن نوافذ الإعلام كانت، ولم تزل، تحت سيطرة الدولة؟ والأهم: لماذا جاءت الآن .. ما الذي تغيّر؟


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.