جعفر عباس : مخترعات بعضها نقمة
سودافاكس ـ حتى قبل عشرين سنة كان الواحد منا بحاجة إلى واسطة قوية لتركيب تلفون عادي في بيته، وكان التلفون يرن في اليوم ثلاث او أربع مرات، وقبلها كان معظم الناس يضطرون الى الخروج من بيوتهم والسير او ركوب سيارات مسافات طويلة او قصيرة للوصول الى نقطة تتوافر فيها الاتصالات الدولية، ويقفون في صفوف طويلة في انتظار الدور لإجراء تلك المكالمات، ثم صرنا قادرين على مخاطبة أفراد أسرتنا محليا، وأصدقائنا في هونولولو دوليا، ونحن نقود سياراتنا التي كل شيء فيها يعمل أوتوماتيكيا، الأبواب تغلق نفسها، ومصابيح السيارة تطفئ نفسها، وفي الأسواق سيارات قادرة على ان تحشر نفسها بنفسها في مواقف السيارات المزدحمة، ويقال إن الإقبال النسائي عليها كبيرا فلا شيء يزعج النساء مثل إيقاف السيارة في الباركنج (الموقف العام) وإخراجها منه! وفي البيت يستطيع فرن المايكروويف تجهيز وجبة في ربع ساعة.
أما اذا كنت تعتقد انك غير قادر على الصبر على الجوع ربع ساعة فإن المطعم يقوم بتوصيل الوجبة الى بيتك خلال 20 دقيقة!! (في المرة الأولى التي دخل فيها فرن المايكروويف بيتي كاد ذلك الفرن يتسبب في موتي او على أحسن الفروض إصابتي بجراح بالغة، فقد كنت معجبا بقدرته الفائقة على التسخين والطبخ، وقمت ذات مساء بوضع ماء في وعاء زجاجي ووضعت بيضتين في ذلك الماء وحشرت الوعاء داخل الفرن.
وأعطيت إشارة البدء، ثم وقفت جانبا وانا أتوقع ان يتم سلق البيضتين خلال نحو ثلاث دقائق، وفجأة بووووووم انفجار مرعب وتناثرت شظايا الزجاج المقوى الذي يشكل باب/ واجهة الفرن بقوة الى الأمام ولو لم أكن اقف على جانب الفرن لاخترقت مئات الشظايا الحادة جسمي، وتولى عيالي شرح أمور الهواء المضغوط داخل كل بيضة وقالوا كلاما لا يفهمه شخص مثلي حصيلته من علمي الرياضيات والفيزياء دون الصفر)
.
المهم الكثير من أمور الحياة صارت سهلة، وفي المدرسة فإن الحاسبة الالكترونية تعينك على حل اعقد المسائل الحسابية خلال ثوان بعد انتهى عصر: سبعة زائد ثمانية يساوي 15 معانا واحد. ولن أملّ ترديد أنه رغم ان حياتنا صارت سهلة فإنها صارت اكثر قلقا، ويا ويلي مثلا اذا لم أرد على مكالمة من زوجتي على الهاتف الجوال، ربما لأنني لم أسمع أنينه او رنينه بسبب الكلام الفارغ المتدفق من متحاورين عربيين في إحدى الإذاعات احدهما يصف الآخر بأنه «كافر»، فيرد عليه أنه «ظلامي استئصالي»، أو لأنني نسيت الجوال في مكان ما، وسبب غضب ام الجعافر هو انها تصبح قلقة علي عندما لا أرد على المكالمة، لأنه من المفترض انني احمل معي الجوال حتى في دورة المياه، والتفسير الوحيد لعدم ردي على المكالمة هو ان مكروها أصابني وأنا في مقتبل العمر. (حسرة على شبابي)، وكل شيء حولنا يدعو الى القلق.. فالخبز الحار من ناره، الذي كنا ايام زمان نتلذذ بغمسه في شاي الصباح صار مسببا للسرطان، لأنه يوضع في كيس بلاستيكي، وما عاد الحمل والإنجاب مدعاة للسرور الشديد والفرح الغامر: تاني ندخل في حكاية الحفاظات والحليب الاصطناعي والتطعيم.
. ولا بد من مؤتمرات عائلية لتحديد ما إذا كان سيذهب لاحقا الى مدرسة مستقلة أو مستعمرة من قبل وزارة التربية.. ومصاريف الجامعة.. هذا اذا وجد واسطة لدخول الجامعة! وتأتيك ترقية فتستسلم للوساوس: الآن سأصبح هدفا لمؤامرات سعدون وزعنون وجماعتهما وليس من المستبعد ان افقد وظيفتي كليا بسبب مؤامراتهما! نضع صينية الشاي أمامنا ثم نوسوس: ملعقة سكر واحدة ام اثنتان.. أحسن الكاندريل.. بس يقولون ان السكر الاصطناعي يسبب السرطان!! واسمعيني يا ام العيال كلمي أختك تؤجل زواجها سنة أو سنتين، لأن ميزانيتي ما تتحمل اشتري لك ملابس وإكسسوارات، وأشتري لها هدية!! وأنت عارفة اني ما سددت سلفة إجازة الصيف اللي فات في بلاجات وشواطئ بدين، لما راحت معنا أُمك! طيب ما تزعلي..
نعطي أمك كذا الف تروح الصين وسنغافورة وهونج كونج والفلبين وحدها تغير هوا شوية، وترجع بالسلامة!! (عنده أمل ان انفلونزا الوطواط ستجيب خبرها، ومن ثم سيشتري لها تذكرة ذهاب فقط).
المخترعات الحديثة جعلتنا في حالة لهاث مستمر، وعيوننا زائغة، وصحيح أنها جعلت تسيير أمور الحياة سهلا، ولكنها حرمتنا من الكثير من البراءة والعفوية وراحة البال.