جعفر عباس : الكرامة أهم من الوظيفة (1)

سودافاكس ـ فوجئت‭ ‬اليوم‭ ‬بسيدة‭ ‬تستوقفني‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬عام‭ ‬وتسألني‭: ‬مش‭ ‬أنت‭ ‬أستاذ‭ ‬جعفر؟‭ ‬قلت‭ ‬‮«‬نعم‮»‬،‭ ‬فقالت‭: ‬طبعا‭ ‬لا‭ ‬تذكرني‭. ‬أحسست‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بالضيق‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يزنقني‮»‬‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬أنني‭ ‬أعرفه‭ ‬ويطرح‭ ‬على‭ ‬سؤالا‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬عرفتني‮»‬؟‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تشكيك‭ ‬في‭ ‬قواي‭ ‬العقلية،‭ ‬لهذا‭ ‬كدت‭ ‬أقول‭ ‬لتلك‭ ‬السيدة‭: ‬وأنت‭ ‬بسلامتك‭ ‬فيفي‭ ‬عبده‭ ‬حتى‭ ‬أعرفك‭ ‬من‭ ‬شكلك؟‭ ‬ولأنني‭ ‬مررت‭ ‬بمواقف‭ ‬مشابهة‭ ‬كثيرة‭ ‬حيث‭ ‬يستوقفني‭ ‬رجل‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬لتحيتي‭ ‬ثم‭ ‬إحراجي‭ ‬بطرح‭ ‬السؤال‭ ‬‮«‬ما‭ ‬عرفتني؟‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬تحليت‭ ‬بطول‭ ‬البال‭ ‬والروح‭ ‬وتصنعت‭ ‬الابتسام،‭ ‬وكنت‭ ‬وقتها‭ ‬مدركا‭ ‬لاحتمال‭ ‬أن‭ ‬طريقي‭ ‬وطريق‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬تقاطعا‭ ‬عند‭ ‬نقطة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بعيدة‭.‬

 

وعموما‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يضايقني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يزنقونني‭ ‬ليسوا‭ ‬من‭ ‬قراء‭ ‬مقالاتي‭ ‬الصحفية‭ ‬فهؤلاء‭ ‬عادة‭ ‬لا‭ ‬يفترضون‭ ‬أنني‭ ‬أعرفهم‭. ‬سبب‭ ‬الضيق‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأصلع‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬الكرش‭ ‬والتجاعيد‭ ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬تلاميذي،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬تلميذي‭ ‬أصلعا‭ ‬وتلميذتي‭ ‬ذات‭ ‬تجاعيد‭ ‬وكراديس‭ ‬فحالي‭ ‬يغني‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭. ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬الثمن‭ ‬المعنوي‭ ‬لتدريس‭ ‬البنات‭ ‬أكثر‭ ‬تكلفة‭ ‬وإرهاقا‭ ‬من‭ ‬تدريس‭ ‬الأولاد،‭ ‬لأن‭ ‬البنات‭ ‬يتزوجن‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭ ‬نسبيا،‭ ‬فبعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬اعتزال‭ ‬التدريس،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أفلح‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬ربع‭ ‬المبلغ‭ ‬اللازم‭ ‬للزواج،‭ ‬صرت‭ ‬ألتقي‭ ‬ببعض‭ ‬تلميذاتي‭ ‬وهن‭ ‬بصحبة‭ ‬صبايا‭ ‬وصبيان‭ ‬من‭ ‬أرحامهن‭. ‬ويقلن‭ ‬لهم‭ ‬ولهن‭: ‬سلِّم‭/ ‬سلِّمي‭ ‬على‭ ‬عمو‭!! ‬جعلوني‭ ‬عمو‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬شرخ‭ ‬الشباب‭ ‬ولم‭ ‬أتزوج‭ ‬بعد‭.‬

 

‭ ‬المهم‭ ‬صدقت‭ ‬مخاوفي‭ ‬واتضح‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬فعلا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬تلميذاتي‭ ‬وبمساعدة‭ ‬منها‭ ‬نشطت‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وتذكرتها‭ ‬لكونها‭ ‬كانت‭ ‬مهذبة‭ ‬ومتفوقة،‭ ‬وسعدت‭ ‬كثيرا‭ ‬عندما‭ ‬علمت‭ ‬بأنها‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬بتقدير‭ ‬‮«‬ممتاز‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬واصلت‭ ‬مسيرتها‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬أستاذة‭ ‬جامعية‭.. ‬وهنأتها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬من‭ ‬نجاح‭ ‬في‭ ‬مسيرتها‭ ‬المهنية،‭ ‬ثم‭ ‬سألتها‭ ‬عن‭ ‬حالها‭ ‬و‮…‬‭. ‬ندمت‭.. ‬امتلأت‭ ‬عيناها‭ ‬بالدموع‭.. ‬والدموع‭ ‬نعمة‭ ‬وهبها‭ ‬الله‭ ‬للنساء‭ ‬تعينهن‭ ‬على‭ ‬التنفيس‭ ‬والتعبير‭ ‬العفوي‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬الرجال‭ ‬نعاني‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مبكرة‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬وأمراض‭ ‬القلب‭ ‬والأوعية‭ ‬الدموية‭ ‬لأن‭ ‬الرجولة‭ ‬والمرجلة‭ ‬في‭ ‬تقديرنا‭ ‬تتطلب‭ ‬كبت‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭.. ‬والدموع‭ ‬عيب‭.. ‬شخصيا‭ ‬دموعي‭ ‬جاهزة‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الفرح‭ ‬والحزن‭ ‬ولا‭ ‬أخفيها‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬ولا‭ ‬اعتبر‭ ‬الرجل‭ ‬الباكي‭ ‬ضعيفا‭ ‬بل‭ ‬أمينا‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬وصريحا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مشاعره‭.‬

 

هناك‭ ‬كيمياء‭ ‬عجيبة‭ ‬بين‭ ‬المدرس‭ ‬والطلاب،‭ ‬فحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يفارقوا‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬بسنوات‭ ‬يبقى‭ ‬الطلاب‭ ‬شديدي‭ ‬الثقة‭ ‬بمدرسيهم‭ ‬ويصارحونهم‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يبوحون‭ ‬بها‭ ‬لأقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليهم‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأستاذة‭ ‬الجامعية‭ ‬حكت‭ ‬لي‭ ‬كيف‭ ‬أنها‭ ‬صارت‭ ‬عميدة‭ ‬لكلية‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬مدير‭ ‬جديد‭ ‬للجامعة‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬بها‭ ‬وصار‭ ‬كل‭ ‬همه‭ ‬إحراجها‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬قدرها‭ ‬أمام‭ ‬بقية‭ ‬الأساتذة‭ ‬لأنها‭ ‬‮«‬امرأة‮»‬‭ (‬وقبل‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬وتحديدا‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬مارس‭ ‬الجاري‭ ‬احتفلت‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب‭ ‬بيوم‭ ‬المرأة‭ ‬العالمي‭ ‬والذي‭ ‬الغاية‭ ‬منه‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬المرأة‭ ‬بالتقدير‭ ‬المستحق،‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العنف‭ ‬تجاهها‭). ‬وكانت‭ ‬المحاضرة‭ ‬الجامعية‭ ‬تلك‭ ‬حزينة‭ ‬لأن‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬الأبواب‭ ‬لتعود‭ ‬إلى‭ ‬نفس‭ ‬الجو‭ ‬الأكاديمي‭ ‬المريض‭. ‬هنا‭ ‬نسيت‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬أستاذة‮»‬‭ ‬واستعدت‭ ‬دوري‭ ‬ك‮«‬أستاذ‮»‬‭ ‬لها‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬بحزم‭: ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬كرامتك‭ ‬فكيف‭ ‬تسمحين‭ ‬لنفسك‭ ‬بالتعرض‭ ‬للمهانة‭ ‬ثم‭ ‬تبقين‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تتعرضين‭ ‬فيه‭ ‬لسوء‭ ‬المعاملة؟‭ ‬باختصار‭ ‬نصحتها‭ ‬بأن‭ ‬تقدم‭ ‬استقالتها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الجامعة‭ ‬فورا‭.

‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أساريرها‭ ‬انشرحت‭ ‬وكأنني‭ ‬أتيتها‭ ‬بحل‭ ‬سحري،‭ ‬بدرجة‭ ‬أنها‭ ‬وعدتني‭ ‬بإرسال‭ ‬فاكس‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬الجامعة‭ ‬بالاستقالة‭ ‬فطلبت‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬لي‭ ‬صياغة‭ ‬الرسالة‭: ‬السيد‭ ‬مدير‭ ‬الجامعة‭.. ‬يشرفني‭ ‬ويسعدني‭ ‬عدم‭ ‬العمل‭ ‬معك‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬واحد،‭ ‬وبهذا‭ ‬أبلغكم‭ ‬باستقالتي‭ ‬من‭ ‬منصبي‭ ‬اعتبارا‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬أمس‭.‬

 


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.