جعفر عباس : ليس ثمة وصفة للمذاكرة
سودافاكس ـ عطفا على مقال الأمس أقول إنه وبعد شهرين أو أقل أو أكثر قليلا، يبدأ موسم القلق والخوف والتوتر والإحباط وكل أشكال الضغوط النفسية والإجهاد البدني.. فالامتحانات المدرسية- وهي أسخف ابتكار للجنس البشري- ستبدأ بعد حين قصير من الزمان، وكالعادة سيحتار ملايين الصغار والشباب حول أفضل السبل لاستذكار الدروس.
ثم يكتشف الجيل تلو الآخر أنه ليس هناك طريقة نموذجية «للمذاكرة»، فهناك من يكتفي بثلاث ساعات يوميا من مراجعة الدروس ويحرز أفضل النتائج، وهناك من يذاكر ثلاث عشرة ساعة يوميا ويرسب في الامتحانات بتقدير ممتاز
. فمذاكرة الدروس استعدادا للامتحان فيها نظريات أكثر من تلك المتعلقة بالحمية أي الرجيم الغذائي الخاص بالمحافظة على الصحة وفقدان الوزن، وهو مجال يكثر فيه الإفتاء في الفاضي والمليان وكل صاحب طريقة يبشر من يتبعونها بالفوز الكبير.
وكما أردد المرة تلو المرة في مقالاتي فإنني أخوض في هذا الموضوع في مثل هذه الأيام من كل عام، لأنني صاحب عمود صحفي ومن واجبي أن أخوض ولو بين الحين والآخر في أمور تهم بعض شرائح القراء، ولأنني أب وعندي عيال مروا بتجارب بعضها عسير خلال مسيراتهم الأكاديمية، وكنت مرافقا لهم في تلك المراحل، إلى أن أكملوا المراحل الجامعية ولله الحمد، ولأنني صاحب خبرة لا بأس بها في مجال التدريس، وجالست المئات من طلابي وناقشت معهم أمور تعليمهم خاصة لمن كانوا يستشرفون المراحل الجامعية، ولأنني يوما ما كنت طالبا وعانيت كثيرا من الامتحانات وأجوائها الكئيبة، ومررت بكبوات ونجحت تارات، ولكن وبصفة عامة يمكن القول إن أبناء جيلي لم يكونوا يتعرضون لنفس الضغوط النفسية والاجتماعية التي يعاني منها جيل الشباب المعاصر في المدارس، فقد كان التحفيز عندنا ذاتيا بمعنى أن الأهل لم يكونوا يحاولون برمجتنا في اتجاه معين، ولم يكن هناك من يطالبنا بأن نسعى لدراسة الطب أو الهندسة على وجه التحديد، وشخصيا لم يكن أبي يعرف ما إذا كنت في الصف الثاني الثانوي أم في الثالث المتوسط. وبعد أن بلغت الخامسة عشر سألني: أما لدراستك هذه نهاية؟ إلى متى ستظل تدرس؟ كان يسمعني أشكو لشقيقي الأكبر عن معاناتي مع الماث (الرياضيات) والفيزكس (الفيزياء) – وكنا ندرس جميع المواد العلمية والأدبية بالإنجليزية – فكان يقول بكل حنان الأب: سيبك (دعك) من وجع الرأس وركز على الحساب والقراية والكتابة
(ولو كان يعرف أن الحساب هو نفس الماث الذي كان يسبب لي الالتماس الكهربائي والالتباس، والاحتباس الحراري، لأخرجني من المدرسة)، ومع هذا لم يعارض استمراري في صعود السلم التعليمي صراحة، وعموما فقد كان الضغط الوحيد الذي كنا نعاني منه هو «الحافز والدافع الذاتي للنجاح»، أي أن الأهل لم يكونوا يشحنوننا ويضغطوننا لنصبح – مثلا – «علميين» بالعافية كما يحدث مع جيل الشباب المعاصر، بل كان كل واحد منا يحرص على النجاح لإدراكنا أنه من يكفل لنا المستقبل الطيب بحيث نحصل على وظائف مجزية ونساعد آباءنا في تدبير أمور المعيشة، وكنت وبرغم مخي الذي كان يتمتع بحصانة ومناعة ضد الرياضيات أحرز نتائج أكاديمية طيبة لأنني كنت «أجيب الفرق» في المواد الأخرى أي أستخدم ترس التعشيقة (الجير) الرابع أو الخامس في المواد التي تسمى بالأدبية حتى أعوض الفاقد من الدرجات في الرياضيات وتوابعها.
طيب قد تسألني كأب: كيف تساعد عيالك على المذاكرة؟ أو ما إرشاداتك لهم؟ والإجابة: أقول للواحد منهم ضع جدولا لمراجعة جميع المواد واعط فسحة أكبر للمواد التي تعاني فيها من ضعف وابدأ المذاكرة قبل وقت كاف من تاريخ بدء الامتحانات، ولا أستطيع أنا ولا يستطيع غيري من الآباء التأكد من أن عيالهم يعملون بتوجيهاتهم ويذاكرون الدروس، فإمساك شخص ما بكتاب ليس دليلا على أنه يقرأ ما فيه. حكى لي أكبر أولادي أنه عندما كنت أطلب منه الابتعاد عن التلفزيون لمذاكرة دروسه أنه كان يغلق باب غرفته عليه ويضع كتابا مفتوحا أمامه ثم يفعل أي شيء سوى المذاكرة، «نكاية» بي! وأنه كان يذاكر بجدية فقط عندما لا يتلقى أمرا بذلك… أي أنه كان يذاكر بالدافع الشخصي الذاتي، لأنه كان يدرك أن النجاح الأكاديمي هو جواز سفره إلى حياة عملية مجزية، وكان يتمرد على المذاكرة عندما تكون فرمانات من الفك المفترس الذي هو أنا… الأب.